سوريا.. في رثاء المنازل

سوريا.. في رثاء المنازل
القصص | 16 مارس 2016

كان من الصعب أن يتصور أولاً أن المنازل تحزن، أو تهمل ذاتها أو ترتد إلى زمن طفولي ماض، إذا ما هجرها أصحابها. كان صعبا أن يصدق هذا أيضاً، إذا ما رواه له أحد ما.

ولكن ما حدث أعاد رسم قناعاته، ويقينياته، وأشكال وعيه بالمحيط الذي يلفه. والظاهر أنه كان هو الذي اضطر لمغادرة بيته. واضطراره جاء على عجل. إذ بدأت القنابل المجهولة تتساقط على الحي من كل مكان. وتمر أو تقتل في طريقها العشوائي الذي لا تقوده أي عين، الكائنات المتوفرة في المكان، واحدة وراء أخرى، أو مجتمعة.

في البداية أعلن عناده المعتاد الذي سبق أن بذره في كل سياق كلامي، عن أنه لن يغادر المكان، لا بعد الطلقة الأولى، ولا بعد مشط من الطلقات.. لن يفعل ذلك. يستعين بأفكاره عن البيت الوطن، عن المكان الرحم، عن كل ما تعلمه، وما علمه للآخرين طوال حياته.

غير أنه رضخ فيما بعد لمتطلبات الحياة، أو لمطالب الأحياء الذين يريدون أن يظلوا أحياء. هكذا غادر المنزل مكرها. هذه هي الحقيقة البسيطة التي حاول أن يشرحها لنا. وفيما كانت زوجته، أو أحد أولاده، يعيدون تمثيل المعارك، وأصوات الانفجارات التي كانت تحدث حولهم، كان يظل صامتا ومراقبا، يتأمل الكلام. كأنما كان يدرك أن الحكايات التي ترددها عائلته عن الحرب الدائرة، أو عن القنابل، والبراميل، إنما هدفها الوحيد، تقديم وجبة من المبررات الضرورية لتفسير أسباب هجرتهم، أو مغادرتهم للبيت.

غير أنه لم يستسلم، كان يعود إلى منزله كلما استطاع أن يتسلل إلى هناك. يذهب من ناحية الوعر، أو عبر طرق الدروب الزراعية، كي يزور بيته. وفي أول مرة قال لنا، إنه وجد سقف البيت يدلف الماء. كان الوقت شتاء، وأقسم لنا أن بيته لم يدلف قط، في أي وقت، منذ أن بناه، إلى أن اضطر لمغادرته. غير أنه الآن كان يدلف. لماذا برأيكم؟ غير أنه لا ينتظر الجواب، إذ كان حاضرا بقوة اليقين الذي يقول إن المنازل لا تستطيع البقاء وحيدة. أو أن ذلك الدلف المباغت، كان نوعا من التعبير عن الهجر. غير أن أشياء أخرى كثيرة بدأت تتبدل في غيابهم عن البيت،  وهو أمر كان يؤكده ما يراه في كل عودة إلى هناك. مرة يقول إن طينة الجدران انتفخت ، وبدأت تظهر أنسام متناثرة على سطحها. ومرة يقول إن بلاط الشرفة الشمالية بدأ يتشقق، وتظهر في تلك الشقوق نباتات برية تسللت بذورها إلى هنا، وسوف تتسبب تلك النباتات في توسيع الشقوق، إن لم تعالج سريعا، بالإسمنت الأبيض، أو بغيره. ومرة يروي لنا عن أن فراش السرير قد انتفخ، كأنما أصابه مرض. أو يدعي أن المياه تتسرب إلى غرفة المعيشة التي كانوا يمضون فيها الشتاء. هذا جديد كله. يقول لنا: هذه إنذرارات مبكرة، أو رسائل تحذير. أو يقول ، إنها روح المنازل التي تشيخ في غيابنا. وهي روح تعرفنا جيدا. وتمرض، أو تهرم وتشيخ في غيابنا. هل جرب أحدكم الغياب عن المنزل؟ أعرف ما يحدث لكم، أو تستطيعون أن تتخيلوا ما يحدث لكم. ولكن من منكم رأى ما يحدث للمنزل؟ 

لا يمكن مقارعة هذه الاستنتاجات، ولا يمكن محاجته، إلا إذا كنت متأكدا من أن بيته بخير فعلا.

غير أنه لم يعد بخير. وهو يرى ذلك، ويراقبه، ولكنه يعجز عن العناية به.      

وفي كل مرة يردد أن المنازل تشتاق لأهلها.

وقد استعان لأول مرة في حياته بمنطق المؤمن الذي يقول بأن لا مفر مما هو مقدر، وإذا ما كان مقدرا له أن يموت تحت ركام الحجارة، فلتكن تلك حجارة بيته. هذا أدعى لطلب الرحمة الربانية من الذين قد يأتون لتشييع جنازته.

المثير في الأمر أن الأقدار شاءت أن تضعه في امتحان آخر: لقد سقطت القذيفة العشوائية على البيت بالفعل، لا يعرف مصدر النار، والقذائف تتشابه، وقد دمرت بيته كله. فيما كان غائبا عنه. وحين عاد كان المنزل قد بات ركاما. وبدا أن المقرر له هو أن يكون شاهدا على الدمار، لا ميتا، أو قتيلا تحت الركام، أو بين الحطام.

* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "روزنة".

* تم نشر هذا المقال بموجب اتفاقية الشراكة بين "روزنة" و"هنا صوتك".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق