لم يتم التعامل مع فصيل عسكري نشأ في أتون الحرب السورية بطريقة ملتبسة وإشكالية أكثرمن جبهة النصرة خلال السنوات الخمس الماضية. أعلنت جبهة النصرة لأهل الشام عن نشأتها مع بداية عام 2012، و مع ذلك لم يتصاعد "نجمها" إلا في أواخر 2013 حين بدأت معاركها ضد فصائل منضوية جملة وتفصيلاً تحت راية "الجيش السوري الحر". ويبدو أن الحديث عن النصرة في هذه الأوقات وخاصة بعد أحداث المعرة والتي يبدو أنها سترسم ملمحاً جديداً لطريقة التعاطي مع النصرة وعلى الأرجح غيرها من الفصائل السلفية الجهادية، يبدو أن هذا الحديث ضرورة أيضاً. ما يثير النشطاء والكتاب حالياً للتعاطي النصي مع النصرة، هو ليس النصرة بحد ذاتها، بل تعاطي ما يسمى "أخوة المنهج" مع أي تمادي أو تحرك للنصرة ضد الكتائب التي تقاتل تحت راية الثورة.
في منتصف أيلول 2014 شنت النصرة هجومها المعروف على جبل الزواية وقامت بالتخلص التام مع كتائب ما يعرف "جبهة ثوار سوريا" والتي كان يقودها المدعو "جمال معروف". وعلى الرغم من كل الاتهامات والتجاوزات التي كان هذا الفصيل يقوم بها في مناطق سيطرته تجاه الناس والعامة، إلا أن النصرة لم تكن بأفضل حال منه. لكن الفارق اللافت بينهما أن النصرة تقاتل تحت راية سوداء عدمية لا تسترجي مشروعاً سورياً على حين أن جبهة ثوار سوريا فهي كما اسمها تقاتل تحت راية الثورة ولسوريا. في ذلك الوقت كانت حركات معارضة مقاتلة أخرى كأحرار الشام و الجبهة الإسلامية، تقف متفرجة على ما يجري دون أن تتخذ موفقاً واضحاً.
لم تتوقف الحكاية هنا، فمع بدايات عام 2015، عادت النصرة لتفتك بأقوى فصائل الجيش الحر آنذاك والتي كان لها دور هام في قتال النظام في محافظة حماة. كان ذلك الفصيل هو حركة حزم. وعلى الرغم من الإشكالية المرافقة لجهات تمويل الحركة هذه وارتباطها بالقوى الدولية والأمريكية، إلا أن حزم كانت كذلك تقاتل تحت راية الثورة الخضراء ولمشروع سوري خالص لا لمشروع الأمة. في ذلك الوقت أيضاً "أخوة المنهج" لم يحركوا ساكناً. بقيت الجبهة الشامية تتفرج على النصرة وهي تقتحم مقرات حزم وصولاً للفوج 46 وسيطرتها على أهم أنواع الأسلحة ومنها مضادات الدروع "صواريخ التاو".
الآن مع سريان الهدنة، والتي رغم هشاشتها وشكلانيتها، فإن المحتمع الدولي مصر بالحفاظ عليها بأي شكل كان. وما هو لافت مع بدأ الهدنة ليس حجم الدمار والقتل الذي انخفض، فطائرات الأسد وروسيا لم تترك يوماً واحداً سماء سوريا حتى خلال الهدنة، ما كان لافتاً هو هذا البعث الجديد للثورة بشكلها وجوهرها الأول. لقد عادت المظاهرات تعم معظم المناطق السورية الخارجة عن سلطة الأسد وهي تحمل راياتها الثورية الأولى وتأبى أن ترفع الرايات السود أو حتى البيض. هنا أخذت جبهة النصرة تستشعر بأزمة حقيقية مضاعفة. إنها أزمة مع الداخل الثوري ومع الخارج الذي يصنفها تحت خانة المنظمات الإرهابية. هذه الأزمة وعلى الرغم من تأخر طفوها على السطح، إلا أنها تعود بجذورها إلى تلك الفترات المبكرة من عمر الثورة. وتحديداً إلى الحوادث السابقة الذكر في أواخر عام 2013 وعام 2014. فمع استثناء المجتمع الدولي لها من قائمة الفصائل المشمولة بالهدنة بالإضافة لداعش وحركات متطرفة كجند الأقصى وإمارة القوقاز والحزب التركستاني الإسلامي، ومع عودة تنامي المد الثوري الذي يلوح برايات خضراء لا سوداء وينادي بمفاهيم الحرية والعدل وإسقاط الاستبداد، سياسياً كان أم دينياً؛ فإن النصرة الآن دخلت مرحلة جديدة من تاريخها الحياتي وقد تكون الفصل الأخير فيه. وهي إذ قامت بقمع المظاهرات المناهضة للنظام السوري ومن ثم اقتحمت في معرة النعمان مقرات الفرقة 13، المنضوية تحت لواء الجيش السوري الحر، فإنما تعمل على تصدير أزمتها المضاعفة تلك لكتائب وفصائل أخرى. فهي الآن في حلقة مفرغة، قبولها بالثورة ومنهجها ورايتها الخضراء يعني تخليها عن مشروع الإسلام والأمة والجهاد العالمي، ورفضها لهذه الثورة يعني تنامي النقمة الداخلية عليها وترافقها مع قتال دولي موجه نحوها ونحو الفصائل السلفية الجهادية المماثلة. إذا دخلت النصرة في حلقتها المفرغة أو سلسلتها المعيبة. فقمع المظاهرات سيزيد النقمة والاحتجاج و ربما الاقتتال ضدها وترك المظاهرات سيعني التحلل والاندماج في المشروع الثوري.
السيئ في المسألة أن هذه السلسلة المعيبة بدأت تولد إفرازاتها التي نلحظها الآن في المعرة والتي يمكن أن نراها أيضاً في مناطق أخرى وخاصة إدلب. وقد يكون لمنطقة جبل الزاوية ومدينة الأتارب في الريف العربي لحلب اللتان لا تزالان تحملان تأييداً شعبياً كبيراً لفصائل سابقة كانت في الجيش السوري الحر بالإضافة إلى عناصر منها، قد يكون له النصيب الثاني أو حتى نصيب الفصيل في هذه المعركة.
ما سيحسم النتائج المترتبة على تصدير هذه الأزمة المضاعفة للنصرة، وبدء قتالها لما تبقى من كتائب تابعة للجيش السوري الحر، هو موقف الذين يدعون "أخوة المنهج"، أي أحرار الشام وقيلق الشام وغيرهم. خاصة أننا لاحظنا انضمام بعض قيادات الأحرار لجموع المتظاهرين في الشوارع، فهل ستتغلب العقيدة والمنهج، على روح الثورة الذي قام من تحت الرماد؟ وهل سيكون النكوص والتردي لأتون ثقافة الموت مجدداً هو الحاكم لعلاقات الثورة أم سيبدأ آذار جديد بعد نصف عقد من عمر الثورة السورية. يبدو أن التعويل كلّه متوقف على المكون السوري في المناطق المحررة سواء التي تتظاهر أو تلك التي تقاتل مع الفصائل الأخرى، لكي تعود وتقول كلمتها وتطرد كل أجنبي وغريب عنها متلبساً لبوس الإسلام أو أشقاء العروبة.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".