عن الألغام

عن الألغام
القصص | 08 مارس 2016

في إحدى زياراتي القليلة لجاراتي المتقدمات في السن في منطقة البقاع الأوسط اللبناني منذ عامين، سمعت للمرة الأولى قصص الأهالي القرويين في المنطقة ومعاناتهم مع الألغام التي لا يزال شبحها موجوداً حتى اليوم، ويثير رعباً في قلوبهم ويستحث ذكرياتهم ألماً وغضباً عند كل ذكر لحوادث الموت والقتل التي تعرضوا لها نتيجة لهذا الشيطان الكبير.

ومن أكثر القصص التي آلمتني وتركت ضجيجاً عالياً من الألم في نفسي، قصة السيدة أم خالد التي تبلغ من العمر ثمانين عاماً والتي ذاقت معنى الأم الثكلى باستشهاد أطفالها الصغار منذ 35 عاماً في مزرعتهم، حيث حمل طفلها الصغير ذلك الوقت جسماً حديدياً ظاناً أنه إحدى معدات السباكة بحكم فضول الأطفال وميلهم لتقليد الكبار، ما لبثت أن انفجرت فيه وقتلته وشقيقته التي كانت تلعب معه واختفياً خلال لحظات وتلاشت أرواحهم إلى حيث لا رجعة، ومع ذلك استطعت رؤيتهما في انعكاس عينيها وهي تروي لي قصتها، يلعبان ويمتلئان حياة. 

تستهدف الألغام كل ما حولها، فلا تعد السلاح الموجه ضد الإنسان فقط وإنما تستهدف كل من الإنسان والحيوان والبيئة أيضاً، تكمن خطورة الألغام بأنها تبقى قابلة للانفجار مهما  طال الزمن عليها ومن الصعب أيضا التيقن بوجودها حتى ضمن حملات نزعها من بعض الأماكن.

العديد من الدول اعتمدت الألغام في حروبها، لكن في عام 2012 كانت سوريا هي الوحيدة التي استخدمتها كسلاح وفقاً لإعلان المرصد العالمي للألغام، حيث تم استعمال الألغام من قبل النظام السوري ضمن المناطق المحاصرة من قبله، ولم يقم باستخدامها فعلياً في المناطق العسكرية وإنما قام بزرعها حيث تواجد أماكن المدنيين.

كما في حلب وإدلب ودرعا، حيث زرع ألغام فردية وقام بزرعها أيضا على طول الحدود بين سوريا وتركيا، أما في معرة النعمان وداريا أسقط عليهما ألغاماً بحرية.

وفي حين ما زالت لبنان تعاني من مسألة الخوف من الألغام وعدم التخلص منها ومن بقاياها حتى اليوم، يعيد  حزب الله اللبناني المشارك في عملية الإبادة الجماعية للشعب السوري في الأرض السورية، رسم هذه المعاناة نفسها التي مر بها اللبنانيون راغباً في إشراك السوريين هذه التجربة من خلال زرع ألغامه على الحدود بين البلدين السورية واللبنانية، فنتج عن ذلك العديد من حالات بتر الأقدام أثناء محاولة نقل جرحى الاشتباكات عن طريق الجبال إلى لبنان للعلاج، ومن أشهر القصص التي مرت بنشطاء الإغاثة الشهيد (شاهر)، الذي تعرض أثناء نقل الجرحى مع بعض المسعفين والإغاثين عن طريق الجبل إلى انفجار لغم فيهم، أدى لاستشهادهم جميعاً، المسعفون والجرحى على حد سواء.

ومن ثم الألغام التي قام الحزب بزرعها في محيط منطقة الزبداني تحديداً في مضايا التي تعاني حصار خانق وتجويع منهجي بغرض التفريغ الديمغرافي للمنطقة، حيث يستشهد العديد من أبناء المنطقة نتيجة لهذه الألغام المضادة للأفراد روسية الصنع، والتي تعارف العوام على تسميتها بالـ"شرٓك"، يتم زرعها حول الحواجز وعند مداخل ومخارج ضيقة تصل البلدة بالطرقات الزراعية والسهل أو أماكن قريبة من الزبداني تكون مربوطة كل عدة ألغام بخيوط فيما بينهاّ، عند الدوس على الخيط أو اللغم تنفجر كلها، بالإضافة لأخرى على شكل قرص مدور يتم انفجاره عند الاقتراب منه، وكنتيجة طبيعية للجوع الشديد وانعدام المواد الإغاثية بشكل كامل، يحاول البعض من سكان  البلدة المخاطرة بأنفسهم وتجاوز المناطق المزروعة بالألغام بغية جني أوراق الخضار أو أي نوع من أنواع الحشائش مما يصلح لسد الرمق. أدت هذه الألغام لسقوط العديد من الضحايا ووقوع الكثير من حالات بتر الأطراف بينهم أطفال بحسب الهيئة الطبية.

مما يزيد الوضع سوءا انعدام وجود الأطباء والمنظمات الطبية التي تعنى بعلاج الجرحى والمصابين داخل مضايا، وعلى الرغم من دخول المساعدات من قبل الأمم المتحدة وخروج الجرحى في الشهر الماضي إلا أن المعاناة ما زالت مستمرة باستمرار الحصار وعدم فكه عن المدينة وباستمرار وجود الألغام وانفجارها.

نتيجة لقسوة الأحداث وقلة الحيلة اضطر أحد المحاصرين، وهو  طبيب بيطري سابق يدعى الطبيب محمد دياب يوسف، إلى معالجة الجرحى المصابين بالألغام، ومساعدة النساء الحوامل على الولادة القيصيرية، وقام بكل أنواع البتر والعمليات الجراحية كبديل عن الجراحين البشريين.

حيث يروي تجربته: "في عام 2014 عندما خرج جميع الاختصاصيين من البلدة ولم يبقى أحد داخلها للعناية بالمشفى الميداني إلا طبيب واحد من مدينة دمشق، طلب مني الأهالي استلام المشفى إدارياً، ثم خلال ذلك الوقت تدربت معه ومع طبيب التخدير على طب الطوارئ، لتبدأ هنا تجربتي. فيما يخص حالات الإصابة بالألغام: شملت شاب بالعشرين من العمر، خمس أطفال خلال خمسة أشهر تمت بتر أيديهم أو أرجلهم، وقبل دخول المساعدات الأخيرة قمت بسبعة عمليات لعدة شباب وبعد دخولها بفترة قمت بعملية لرجل بالخامسة والستين من العمر".

قصص مؤلمة وشهادات قاسية، تجارب حقيقية لأشخاص، هي كل ما يتم توثيقه يومياً عن معاناة مستمرة لم تنته بعد، وربما سيمتد أثرها لسنين طويلة لن تترك مجالاً لتخيل مستقبل خالٍ من الآلام، فلا أحد يعلم ما سينتج عن تغير العوامل الجوية وعن تغير أماكن الألغام المزروعة ولا يمكن توقع أعداد المتضررين مستقبلاً ولا إيقاف المتضررين حالياً، بسبب تعنت نظام جائر أراد فقط القتل والانتقام غير آبه بتاريخ بلد عريق وأجيال يمحى مستقبلها ويرسم لها أرضاً جديدة، ويكتب لها مواعيد متفاوتة مع الموت والمعاناة.

أنقذوا سوريا.. أنقذوا أطفالها..

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق