مع انخفاض وتيرة العنف في الأراضي السورية وخاصة المناطق المحررة من سلطة الأسد ونظام البعث، بعد التطبيق الجزئي لاتفاقية وقف الأعمال العدائية المدعومة روسياً وأمريكياً؛ عادت مظاهر الثورة السورية التي كنا نشهدها في الأعوام الأولى للظهور في أغلب هذه المناطق. كثير من الناشطين عادوا ليجدوا في هذه المظاهرات روحاً جديدة أخذت تنبعث من تحت الرماد.
اللافت في هذه المظاهرات كان الغياب التام للرايات البيضاء والسوداء ذات الدلالة الدينية واقتصارها على أعلام الثورة السورية الممثلة بعلم الاستقلال. في مناطق أخرى كذلك كانت هذه المظاهر لا تقصر شعاراتها الأساسية على إسقاط الأسد والاحتلال الروسي، لا بل كان هناك مظاهرة في قرية دركوش طالبت جبهة النصرة بالانسحاب والخروج من القرية وإلغاء تواجدها العسكري بشكل شبه تام.
ما سبق اعتبر بعثاً وحياة لثورة اعتقد الكثيرون لوهلة أنها قد اندثرت وأصبحت من الماضي مغلفة بغلالة سميكة جداً من الحرب والاقتتال الأهلي الذي لم يهدأ منذ خمس سنوات تقريباً. ولكن مع اقتراب الذكرى الخامسة للثورة السورية يبدو أن هذه الغلالة بعد نصف عقد من التكدس والتطبق، قد بدأت أخيراً بالتحلحل والانكشاف. هنا سيستوقفنا مسألة في غاية الأهمية تعود إلى قدرة الناشيطن الذين شكلوا جوهر الثورة الأولى وروحها الأساسية، في العمل على تلافي الأخطاء السابقة التي مرت في نصف العقد الماضي والتي كانت سبباً في تكوم هذه الغلالة "المتأسلمة" فوق الثورة وأخذها بعيداً لأحلام شعب بكامله نحو صراعات لا صلة لها بالواقع السوري.
تنهض أمام جموع ناشطي الثورة في الداخل على وجه الأخص وفي الخارج بدرجة ما، ضرورة ملحة في جذرية التعاطي مع مقولات الثورة ومع أهدافها وشعاراتها ونشاطاتها. لا يكفي هنا الركون إلى المقولة الممجوجة السابقة بأن المطلوب الآن إسقاط الأسد وبعدها ستكون الأمور الأخرى تحصيل حاصل. لا يمكن الاكتفاء بقول نصف المطلوب وإضمار البقية درءاً للخلاف والاختلاف مع ما يمكن تسميتهم بالإسلاميين، فتحصيل الحاصل هذا هو الذي جلب لنا داعش و إمارة القوقاز وجند الأقصى والنصرة وغيرهم. تحصيل الحاصل هذا هو الذي فتك بثورة شعب وحولها لحرب إقليمية إن لم تكن دولية.
تنهض أمام الثورة التي انبعثت من جديد، ضرورة تصفية الحسابات أيضاً مع كل من يقف حائراً في مشروعه بين سوريا الوطن والمواطنة وبين سوريا الأمة والجهاد. وهنا تتجه البوصلة نحو حركات توصف بأنها من المعارضة الإسلامية المعتدلة كأحرار الشام وجيش الإسلام وفيلق الرحمن والأجناد وغيرهم، هؤلاء وإن كان يغلب عليهم المكون السوري في الأيديولوجيا والتشكيل؛ فلا بد لهم من أن يطهروا جماعاتهم من أردان فكر القاعدة والجهاد العالمي وينخرطوا تماماً في المشروع الوطني السوري على المستوى الفكري وفي الجيش السوري الحر على المستوى العسكري. هذه الجماعات تمثل الخطر الداخلي الأول على الثورة بعد خطر الجماعات التكفيرية السابق ذكرها وبعد الخطر الخارجي المتمثل بالاحتلال الأسدي الروسي.
الجذرية مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. إن فشل الثورة الآن في تجاوز أخطائها التي مرت، ستكون بمثابة إطفاء للجمر الأخير المبثوث من تحت الرماد. لا يمكن الآن الركون إلى المواربة وأنصاف الأقوال، لا بد للنخب الثورية أن تقوم بدورها الذي تخلت عنه طوال السنين الخمسة الماضية. هذه النخب التي تركت الأمور كما يشاء لها متذرعة بأن الشعب هو الذي يصنع ثورته بنفسه. مما أدى إلى ثورة منفلتة من عقالها، مقطوعة الرأس كان مقدراً لكثير من المتسلقين امتطائها من خارج سوريا ومن داخلها.
لا بد للنخب، والسياسية منها تحديداً، أن تعود لتشكل هذا الرأس الذي أضاع جسده وجعله مغتصباً من ذوي الرايات السود وأصحاب العدمية والسكاكين. ولابد للقيادات التي تعمل على إيحاء الثورة وبعثها، أن تدفع نحو إنخراط الشعب في عملية تشكيل هذا الرأس أكثر وأكثر. الثورة السورية تحمل في جوهرها الكثير من الممكنات لشعب ما يزال يحلم باستنشاق عطر الحرية منذ ما يقارب النصف قرن.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".