مقالات الرأي | حين تعثرت مفاوضات جنيف 3، التي لم تنطلق عملياً، قال دي ميستورا "قد يكون جنيف 3 هو الفرصة الأخيرة للسوريين". وقبل بضعة أيام صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قائلاً: "ربما يفوت الأوان على إبقاء سوريا موحدة إذا انتظرنا فترة أطول" وحذر من احتمال انهيار سوريا بالكامل، وهذا ما جعله يعلن عما أسماه "خطة بديلة" أو "الخطة ب" التي أنكرها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واعتبرها غير ممكنة أصلاً دون أن نعرف ما هي هذه الخطة. وفي حين يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الهدنة المتفق عليها عملية صعبة، بل متناقضة، يقول الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن الأيام القادمة ستكون حاسمة، دون أن ندري هي حاسمة في أي اتجاه أو بأي معنى.
مهما يكن الأمر فإن في تأمل ما يصدر عن الشخصيات الأكثر تأثيراً اليوم في الشأن السوري ما يدعو إلى الحيرة. اتفاق الهدنة الذي وافق عليه مجلس الأمن بالاجماع في القرار 2268 تخونه الدقة في تحديد المناطق والجهات والكيفية التي تضمن تطبيقه في واقع سوري شديد التعقيد إن من حيث تداخل التشكيلات العسكرية أو من حيث الاستعداد السياسي أو العسكري للهدنة لدى الأطراف المتهادنة. من بين أكثر من ألف جماعة مسلحة في سوريا اليوم وافق أقل من مئة على الاتفاق، كما استثنى النظام السوري مناطق من التطبيق، واحتفظت كل الأطراف بحق الرد ..الخ. والبند الذي يستبعد داعش والنصرة من الاتفاق يزيد في هشاشة الالتزام به. أي إن فشل الهدنة مضمون، وهذا ما سوف يجعلنا على موعد مع معنى تصريحات أوباما وكيري. والراجح أن السوريين سيكتشفون مرة أخرى أن المعنى الوحيد لكل المجهود الأمريكي حيال سوريا هو التلكؤ والانتظار، وهو بالضبط ما يجعل جون كيري يبدو هزيلاً أمام لافروف الذي يعرف ما يريد ومصمم على ما يريد.
قد تصمد الهدنة بضعة أيام تتيح إيصال مواد الإغاثة للمناطق المحاصرة وربما تريح الأهالي الذين لم يهاجروا بعد من أصوات الطائرات والمدافع، ولكن لا أكثر. لا أحد يضمن بأن يهنأ المعتقلون أو المخطوفون أو الضحايا بهدنة من العذاب اليومي والجوع والإهانات، فالهدنة لا تأتي على ذكر هؤلاء البؤساء المنسيين الذين يهترئون في المعازل ويصعب علينا حتى التفكير بهم. كما لا تفتح الهدنة باباً يدخل منه المسؤولون الرئيسيون عن خراب سوريا إلى فكرة الوطن الواحد والشعب الواحد، إنها على العكس، تعطيهم مهلة لتدبير المزيد من أعمال الانتقام من أجل المزيد من تدمير الفكرة السابقة.
يمكن تصور أن أمريكا تساهلت مع روسيا في قلب موازين القوى لصالح النظام كي تغري هذا الأخير بدخول جاد في مفاوضات يشعر فيها أنه في وضع عسكري مريح. وقد قال الروس بالفعل إنهم لم يتدخلوا ليحققوا للرئيس السوري نصراً عسكرياً حاسماً. ولكن العقدة أن النظام محكوم إلى معادلة كل شيء أو لا شيء، ولا أظن أن الروس والأمريكان غافلون عن هذا. وقد يكون هذا التباين بين نظام يريد الديمومة على سابق عهده مع تمنين "المعارضين الوطنيين" بشيء من فتات السلطة، وبين حليف روسي يريد حدوداً أعلى من المشاركة دون المخاطرة بتغيير جذري للنظام، هو المسؤول عن الهجوم الروسي الأخير على الأسد، وهو المسؤول عن تحدي الأسد للروس بإعلانه عن موعد لإجراء انتخابات مجلس الشعب بعيداً عن العملية السياسية.
من الواضح أن الداعم الإيراني كان على طول الخط على يمين النظام في مقاربته لمعالجة الاحتجاجات، فيما يقف الروس على يسار النظام ويريدون حلولاً أكثر جدية تتضمن بالضرورة تنازلات سياسية مهمة ولكن دون أن تطال المؤسستين الأمنية والعسكرية بتغييرات عميقة، الأمر الذي يدفع النظام إلى محاولة التملص ومراوغة الروس أنفسهم.
يمكن أن يتسبب هذا الشرخ في مواجهة سياسية بين الروس والإيرانيين، غير أن الراجح أن ثقل الوجود الروسي في سوريا ورسوخه دولياً، فضلاً عن الحنكة الإيرانية المعهودة، سيعيق نشوء هذه المواجهة. هذا ما سيدفع النظام إلى المزيد من المناورات والعرقلة التي لا يملك الروس القدرة على منعها، عندئذ يمكن أن تترجم تحذيرات كيري ودي ميستورا إلى حقائق، أقصد أن يترك الصراع في سوريا وعلى سوريا يتدحرج بقواه الذاتية التي سوف تقود حتماً إلى فوضى أشد تجعل من أي حل حلماً للسوريين بما في ذلك التقسيم الذي لا يستبعد أن يصل إلى حد التقسيم السياسي.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".