دوما.. في السويداء

دوما.. في السويداء
القصص | 17 فبراير 2016

ليست دوما وحدها، بل معظم المدن السورية باتت هنا، لا أقول هذا مجازا البتة، فحين تنتقل في أرجاء المدينة، سوف ترى بنفسك أن العشرات من المحلات التجارية، والمانيفاكتورات الصغيرة، ومشاغل النجارة والحدادة وتصليح السيارات و تنجيد غرف النوم وصناعة الخشب، قد تمددت فيها من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، أسماءُ المدن والبلدات السورية.

وهكذا فإنك سوف تقرأ: داريا أو سقبا، أو دوما، على الواجهات الملونة، وسوف تعرف أن أصحابها يعلمون أن الاسم يكفي للتعريف بالمادة المعروضة في الداخل. وهكذا صار بوسعك أن تدخل إلى البيوت في المدينة، وتجلس على مقعد منجد بإتقان داريا الشهير، أو بتقنيات سقبا الملونة المكفولة. أو تزور المنطقة الصناعية بحثا عن كهربجي سيارات اسمه الأول: أبو حسن مثلا، أو خياط مبهر من حرستا، أو ميكانيكي حلبي يستطيع تصليح السيارة، واللابتوب أيضا.

لا أعرف إذا كان بوسع المرء المراهنة على وحدة للشعب السوري تأتي من مثل هذا الاجتماع الذي فرضته الحرب. غير أن الوقائع قد تساعدنا في تلمس الأسباب للحصول على نتائج مطابقة، أو مشابهة.

ببطء ولكن بفاعلية، تأتي فرص التعارف البشري. في البداية كانت التسميات العامة هي التي تحظى بالأولوية. لا أعرف من الذي اقترحها وعممها. هل هي الظروف الضاغطة والمتسارعة، أم هي التوجيهات غير المعلنة، أم هي جفوات الماضي السوري؟

وهكذا سُمي القادمون الجدد إلى المحافظة، من جميع المدن السورية التي تشهد القصف والتدمير، أو الاشتباكات والقتال:

"المهجرون". تسمية تعكس رأيين مختلفين: الأول هو تعميم الاسم بحيث يطال الغريب القادم، ويبقي المسافة، بين القاطن المحلي وبين القادمين، كافية لاتخاذ المواقف حين الطلب. والثاني يعكس موقفا مبطنا يؤمن أن القادمين مجبرون على ترك بيوتهم، وقراهم، ومدنهم.

وقد انتصر الرأي الثاني الذي استطاع بعد زمن إلغاء التعميم، لتحل محله الهوية السورية المحلية المتنوعة المعروفة: دوماني. حمصي. ديري. درعاوي. حوراني. شامي. حلبي. دون أن تتضمن التسمية أي ظلال جانبية تشير إلى رأي ما. إنها تعريف جغرافي محض يزيد معرفتنا بالآخر وحسب.

ومن المرجح عندي أن القادمين الجدد قد ساهموا في تبديل التسمية أيضا، إذ راحوا يؤسسون لعلاقات طبيعية مع المحيط الجديد، بعد فرصة كافية من التقاط الأنفاس، وتهيئة الأجواء، والخروج من ضيق المعارف القديمة.

وكان من الضروري خلع عباءة اللجوء، أو الهجرة، واستبدالها بالهوية الوطنية. وهو أمر اتضح في علاقات التعارف، فالمكان الذي جاؤوا إليه جزء من سوريا، وليس تلك القطعة الغريبة التي يجد الدوماني أو الحلبي، أو الحوراني نفسه مضطرا للهرب إليها. وهو الأمر الذي استدعى أن يتجرأ أي منهم، من أصحاب المهن والأعمال الصناعية، وغيرها ، لا على فتح المحال والدكاكين والورشات الصناعية، أو محلات الحدادة والنجارة، وحسب، بل على وضع أسماء مدنهم وبلداتهم على الواجهات العريضة التي تُعرّف بصاحب الورشة، أو بمهنته.

لا يعرف أبناء السويداء أبناء دوما. ثمة رزمة من "المعارف" الغامضة، والسرية، يحملها كل واحد منهم عن الآخر. يتخللها في كثير من المرات عرض أسطوري، أو خرافي، يضع الآخر في سلة أفكار وتقاليد وعادات وأشكال إيمان لا تشبهه، أو هي تشبه الجاهز، والمقولب، أو المعد في ضوء المعرفة الممنوعة. يمكن قلب الكلام، ونقل الصورة إلى أبناء حمص وحلب وداريا والشاغور، إذ يحمل كل منهم فكرة جاهزة عن الآخر، تضمن أن يظل دائما في حماية العزلة والانغلاق. من دبر ذلك؟

ومتى تم ترسيخ الحالة؟ يحتاج الموضوع منا، أو سوف يحتاج، إذ أن معظم المهتمين بالشأن العام مشغولون اليوم بالصراع والعنف والمفاوضات وغيرها. طيب. يحتاج الموضوع لدراسات عميقة وجادة وشجاعة لقول الحقائق عن سنوات ما بعد الاستقلال كلها. بل إن أثر الاستعمار الفرنسي على السوريين من الناحية الاجتماعية لم يدرس بعد، وثمة اكتشافات هامة مأخوذة من الأرشيف الفرنسي، يثبت من خلالها الدكتور وجيه كوثراني، التدخل الاستعماري المقصود، لتفكيك وحدة السوريين، أو لمنعهم من إيجاد نقاط التواصل المجتمعي، والمآلات التي دفعوا إليها من استعمار عمل جاهدا على ترسيخ التباين، والاختلاف، لا اكتشاف التشابه وطرق العيش، ووحدة المصير.

نتحدث أيضا عن سوريين كابدوا طوال المرحلة التي تلت جلاء المستعمر من التهميش، والحصار، والتخويف من الشريك القريب الذي صور لهم كعدو. وما يعيشه السوريون من التمزق وأرصدة العنف المتبادل، والكراهية الدموية، هو نتاج هذا النهج الذي قاده رجال يرون أوطانهم في خزانة المصارف وحدها.

* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "روزنة".

*تم نشر هذا المقال بموجب اتفاقية الشراكة بين "روزنة" و"هنا صوتك".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق