ما هو أهم من تفاصيل جنيف

ما هو أهم من تفاصيل جنيف
القصص | 01 فبراير 2016

مقالات الرأي | ابتعد الأمريكيون مسافة مفاجئة عن المعارضة السورية التي تكتشف اليوم أنها لم تراكم خلال السنوات الخمس الماضية سوى علاقات دولية هشة ووعود ورهانات بلا رصيد، إلى جانب قدر لا بأس به من المناكفات وإدخال الشخصي على خط العام وممارسة العداوات. ولكن لا معنى الآن للكلام عما فات من سياسات ورهانات واتكال على غير الذات ...الخ. السؤال الضروري اليوم: هل سوريا مجرد لقمة لمن يمتلك القدرة العسكرية و"المهارة التفاوضية"؟ ألا يوجد ما هو أساسي وما لا يمكن تجاوزه في الموضوع؟ هل ميزان القوى هو الفيصل وصاحب الكلمة النهائية في تحديد مستقبل سوريا؟

لسنا مثاليين لننكر ما للقوة من دور في تحديد مسار الأحداث ومستقبل الدول أيضاً، وما للتفاصيل والمهارات السياسية والتفاوضية من دور أيضاً في تحسين موقع طرف على حساب طرف آخر، لكن يبقى، بعد كل هذا، أنه من الصعب على القوة وحدها أن تحكم. والحق أن النظام السوري لم يعد يمتلك سوى القوة، وهي إلى ذلك، قوة مستعارة من الآخرين وليست أصيلة لديه، أي هي قوة وصاية في المحصلة. وهذا ما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن النظام لا يريد فعلاً الحل السياسي، بل يريد استمرار الحرب، لأنه يمتلك عدة الحرب ولا يمتلك عدة السلام. وسيرينا في جنيف نموذجاً صريحاً للمراوغات والتهرب. وكانت فاتحة ذلك "فاتحة قرآن" النظام التي تلاها الجعفري (لا شروط مسبقة، لا تدخل خارجي)، والتي تترجم التوجيه العام الذي نقلته الصحف عن وليد المعلم: "المعارضة لن تأخذ في المفاوضات ما لم تحصل عليه في ساحات الوغى". أي إن النظام السوري لا يذهب إلى جنيف من أجل الحل بل للمناكفة والتعطيل.

حين يصبح قصف المدنيين وتجويعهم قوة تفاوضية، يجب أن نعلم أننا لسنا أمام نظام مجرم فقط، بل أمام عالم مجرم. ولا تخرج من دائرة علامات إجرام هذا العالم أن يكون محمد علوش ممثل "جيش الإسلام" هو كبير المفاوضين على الضفة المواجهة للنظام، لكي يكون قدر السوريين محصوراً في هذا الممر الضيق بين مجرم ومجرم، بين وصاية دولة مجرمة هنا، ووصاية دولة مجرمة هناك. هكذا تكون دماء وأرواح ومعاناة السوريين مجرد عملة تبادل في البازار العالمي.  

كثيرة هي النقاط التي تجبر المرء على النظر إلى جنيف الحالية على ضوء التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي المزمن والكليل. هناك حقوق واضحة ومتضمنة في قرارات أممية يتم التحايل عليها استناداً إلى مبدأ القوة والتحالفات. وهناك شعب يريد استعادة حقوقه السياسية، فتنكر عليه حقوقه ويعامل كما لو أنه شعب إرهابي بجريرة منظمات إرهابية رعاها ويرعاها في الواقع "محاربو الإرهاب" إياهم. وهناك أيضاً فصل لئيم بين الميول العنيفة و"الإرهابية" للناس وبين شروط حياتهم وحرماناتهم وسلبهم حقوقهم، كي يتحول الإرهاب إلى صفة طبيعية لبشر معينين. وبطبيعة الحال ما يسمح بهذه المقارنة ويجعلها ممكنة لا يكمن في قوة  النظام السوري أو قوة إسرائيل بل في قوة اللاعدل في العالم واستعداد "المجتمع الدولي" دائماً لاحتضان بطش الأنظمة في مواجهة الشعوب.

النقطة المهمة التي ينبغي تأملها، لا تتعلق بأروقة مؤتمر جنيف وألاعيبه، ولا بتبدل الموقف الأمريكي من عدمه، ولا تتعلق بموازين القوى العسكرية والسياسية، ولا بالكثير من التفاصيل التفاوضية، إنها تتعلق بالأحرى بميزان القوى الأخلاقية إن صح القول، أو بميزان العدل وإن بحدود دنيا. إن أي تسوية للوضع السوري لن تنتج استقراراً ما لم تشتمل على نسبة من العدل تسمح باستيعاب ما حل بالسوريين من قهر وخسارات. لا يمكن أن يستقر الحال في سوريا حين يشعر الناس أنهم أُعيدوا بالقوة إلى بيت الطاعة مشبعين بالانكسار، مهما كان عدد الإمضاءات على ورقة التسوية ولو كان من ضمنها الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

بعد كل شيء، لن تتجه الأمور الوجهة التي تخدم مستقبلاً أفضل لسوريا، عبر تحقيق الغلبة بالقوة على حساب غلبة العدل. وليست في محلها فرحة الفرحين "بالتراجع" الأمريكي، الذين عليهم أن يتأملوا اليوم كيف يهاجم الشباب الفلسطينيون بالسكاكين الجنود الاسرائيليين المدججين بالسلاح.

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق