لم يمضِ سوى ثلاثة أسابيع على الهزة القوية التي تلقاها الإعلام السوري المحسوب على قوى الثورة والمعارضة باغتيال الشهيد "ناجي الجرف"، أحد أبرز العاملين والمدربين للكوادر الإعلامية الناشئة في المناطق "المحررة" وما سبق هذه الحادثة من اغتيالات لناشطي حملة "الرقة تذبح بصمت"، حتى وعادت محاولات إسكات الصوت في هذه المناطق تتجسد في اعتقال ناشطين إعلاميين بارزين هما رائد الفارس و هادي العبدالله من مقر إذاعة "فرش إف إم" في مدينة كفرنبل على يد عصابة من الملثمين. وعلى الرغم من الاختلاف في أماكن عمليات التصفية أو الاعتقال، واختلاف الجناة بين داعش والنصرة أو غيرهما، إلا أن التضمينات والاعتبارات بين هذه الحوادث تكاد ترسم ملمحاً بيّناً لآليات تفكير وعمل القوى التي تسيطر على المناطق "المحررة"، لتأخذ شكلاً هو أقرب ما يكون لعمل وآليات تصرف أجهزة أمن نظام الأسد وعناصر مخابراته.
ودون الرجوع كثيراً إلى حيثيات عملية الاعتقال الأخيرة لناشطي كفرنبل الإعلاميين وما تمثله هذه البلدة الصغيرة بالنسبة لقيم الثورة السورية بإيصالها صوت سوريا الوطني للعالم بأسره، وبغض النظر عن الدور الذي يلعبه هادي العبدالله كإعلامي مرافق لقياديي جيش الفتح، والذي تعد النصرة أحد أبرز فصائله، فإن إسكات صوت كفرنبل الذي مثّل السوريين خلال خمس سنوات وإلى الآن والذي كان بصيص الأمل القليل المتبقي لنا، ينذر بأيام قادمة مليئة بالصمت للإعلام السوري في الداخل المحرر على وجه الخصوص وفي دول الجوار وخاصة تركيا عموماً.
الكثير من الناشطين الإعلاميين سواء في مدينة غازي عينتاب حيث تمت عملية اغتيال الشهيد ناجي الجرف أو في غيرها من المدن التركية إما بدلت مكان إقامتها أو بدأت تستعد لمغادرة الأراضي التركية، فالتهديد الآن حقيقي وجديّ، وليس معلوماً الجهة التي ستكون مسؤولة عن الاغتيال أو الاعتقال القادم. وكل القوى التي تعتبر أو لا تعتبر نفسها جزءاً من الثورة هي موضع شكّ واتهام. وهذا سيقود إلى إقفار واسع للساحة الإعلامية المعارضة من الآراء والأصوات التي يعول عليها أن تكون ما بقي من الثورة كحرية وتعبير وصوت للمظلومين والمقهورين.
سيقودنا هذا الإقفار بدوره، كما قاد الكثير من الإعلاميين في العقود الأربعة الماضية من حكم الأسد، إلى تغير في البوصلة التي يعبر عنها الإعلام الثوري سواء بالمبنى أو بالمعنى. وسيكون كما كان للأسد الأب والابن أبواقهما وزبانيتهما الإعلامية، كذلك سيكون للمحيسني والجولاني أبواقهما وأصدائهما التي تتردد على هذا المنبر أو ذاك.
لن تقتصر عواقب هذا التضييق على الإعلام وحرية التعبير في مناطق نفوذ المعارضة سواء في الداخل المحرر أو في دول الجوار على إسكات الصوت الآخر فحسب، بل سيتعداه لإسكات صوت الحق أيضاً. فكما هو معلوم يلعب الإعلام دوراً أساسياً في التوثيق للانتهاكات والممارسات اليومية التي يصعب في كثير من الأحيان على المنظمات والشبكات الحقوقية أن تسجلها، وهذا الدور سيكون موضع ملاحقة وتعقب من قبل الكثير من الفصائل المسلحة لعديد من الناشطين الذين يمتزج دورهم الإعلامي مع التوثيقي.
إن خمس سنوات من الحرب المتواصلة وما أنتجته من تطرف إسلامي غير مسبوق في المنطقة كانت داعش ذروته، لن يكون تهديداً على الإعلام وحرية الكلمة فحسب، فهو كما نظام الأسد لا يمكن أن يقبل بوجود ما يخالفه حتى في آلية التفكير. فالآخر بالنسبة له يكافئ العدم وليس عسيراً إسكات صوته بطلقة من كاتم صوت، أو بعصابة من ملثمين تأخذ به إلى غياهب المجهول.
ليست هذه الحوادث بجديدة على مجريات الثورة السورية وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال ناشطين في الثورة من قبل فصائل أو عناصر قد لا تكون محسوبة على الثورة لكنها ذات نفوذ في مناطق تعتبر محررة وثورية. فقد سبقها في عام 2013 اعتقال النشطاء الأربعة لمركز توثيق الانتهاكات في مدينة دوما، واعتقال الناشط أبو مريم ورفاقه في حي بستان القصر في حلب وصولاً للكثير من الإعلاميين الذين غابوا في سجون داعش وأقبيتها في مدينة الرقة.
هذه الحوادث كلّها تفرض علينا إمّا إعادة للنظر في مصطلح "المناطق المحررة"، فالقوى المسيطرة فيها أبعد ما تكون عن قيم الحرية التي نادى بها الشعب السوري في شوارع حماة وحمص ودرعا وحلب، أو تدفع بنا نحو تحرك شاملٍ على الصعيد الإعلامي والحقوقي لرفض الممارسات هذه القوى التي لا تختلف عن استبداد الأسد سوى بإطالة اللحى وتسخير الدين. بحيث لا يكون النشاط الإعلامي بوابة تخدم الترويج لإرهاب جديد.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".