من المفروض أن تكون وساماً وتاجاً تزين فيها سواد الذكريات الأليمة في أقبية السجون والزنازين البغيضة، إلا أن تجربة الاعتقال التي غالباً ما يفاخر فيها الرجال في كل حضرة وكل حوار، فإن الحال يختلف جذرياً لدى المرأة التي سبق أن دخلت المعتقل.
شهدت سوريا وما تزال إلى الآن، حكماً شمولياً مغرقاً في وحشيته ولا اعتباريته لمواطني الدولة كأناس وإنما كممتلكات لمزرعة الأسد الأب ومن ثم ابنه. هذه الوحشية في ممارسة السلطة، زجت بآلافٍ من السوريين في سراديب ومعتقلات لم يعرف التاريخ مثيلاً لها بظلاميتها وقسوتها. وتاريخياً شهدت سوريا ذروتين كبيرتين في حجم الاعتقالات وكميتهما، هما فترة الثمانينات من القرن المنصرم والفترة الحالية التي بدأت مع الثورة السورية وما تزال مفاعيلها مستمرة حتى الآن. خلال هاتين الذروتين اعتقل الكثير والكثير من السوريين رجالاً و نساءً. وعلى الرغم من حجم القهر والرضوض النفسية التي كانت تترتب على تجربة الاعتقال التي يعاني منها الأسير الرجل، إلا أنّ الكثير من المعتقلين يلقون في القبول الاجتماعي والوسط المحيط عزاءً وتعويضاً لا بل حتى وساماً وشرفاً يجعل المعتقل يتجاوز كل ما ترتب على نفسيته من أسى وكل ما حفر في ذاكرته من رضوض نوعاً ما. إلا أن القصة ليست كذلك لدى المعتقلات.
لقد اعتقلت في الثمانينات مئات الشابات السوريات إن لم يكنّ بالآلاف حتى. أغلبهن كنّ من خلفيات ذات توجهات يسارية كالحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي أو حزب العمل الشيوعي أو حركة 23 شباط. و على الرغم من الوسط اليساري الذي جاءت منه هؤلاء الشابات ، إلا أن المجتمع والوسط المحيط بهن لم يكن في تعامله معهن جذريّاً وتقدمياً كما الأفكار التي نادى بها. العديد من هؤلاء النسوة خسرن عائلاتهن وحياتهن وأعمالهن نتيجة الوصمة الاجتماعية التي وصلت درجة التعنيف والتأنيب والتهميش. كثير من الناشطات السياسات في فترة الثمانينات عندما خرجن من المعتقل، لم يكن بمقدورهن حتى الانخراط في سوق العمل كمحاولة للعودة إلى الحياة التي سلبت في سنوات خلت. وغالباً ما كانت تنشأ هذه الوصمة الاجتماعية من افتراض أن الدخول إلى المعتقل سيحتم انتهاكاً لعذرية ما – مفترضة في الجسد بسبب تقاليد وعادات موروثة. وعلى الرغم من أن ضروب التعذيب والتعنيف الجسدي والجنسي التي يتلقاها المعتقل سواء كان ذكراً أو أنثى هي نفسها إن لم تكن أقسى على الأنثى في أغلب الظن، إلا أنّ الوصمة لن تسقط إلا عليهن!.
هذا التعنيف القار في كل مفاصل الحياة وتفصيلاتها من سوق العمل مروراً إلى الأسرة وصولاً إلى حقل النشاط السياسي، كان يدفع بالمعتقلات إلى تبني آليات دفاعية غالباً ما تكون مرضية تقوم على العزلة والانطواء أو المجابهة المضادة للمجتمع كلياً. وهذه بدورها ما تزيد من المسألة تعقيداً وتزيد من حجم التعنيف الاجتماعي وتجعله يأخذ طابعاً مبرمجاً وأكثر جذرية.
هذه الحال لم تكن مغايرة في طابعها العام عمّا هو قائم الآن منذ اندلاع الثورة السورية في آذار 2011. ما هو مختلف هو الكم الهائل من المعتقلات اللواتي خضن تجربة التعيف هذه سواء في داخل أفرعة الأمن أو في خارجها في الأوساط الاجتماعية. لقد حدث توسيع في تعنيف المرأة السورية وتمديد لها لتشمل آلافاً من فراشات سوريا اللواتي صرخن ذات يومٍ بكلمة حرية، ليأتي بعدها مجتمع غارق في ذكوريته ليوسم هذه الحرية بعارٍ متخيل وظلم مضاعف.
تمدد تعنيف المرأة السورية في المعتقل من ضربات سوط الجلاد وكلماته ووحشيته الجنسية تمدداً وصل إلى كلّ الجلادين الآخرين في البيت والحيّ وحتى في سوق الخضار.
قد تبدو الصورة قاتمة عند النظر إلى واقع المرأة السورية في المعتقل نتيحة هذا التضاعف لأثر الاعتقال ووقعه على حياتها كإنسان يتعرض للاستبداد في مستويين اثنين، مستوى السياسة ومستوى الاجتماع. إلا أنّ الثورة السورية التي فرضت تغييراً ليس بالقليل على الكثير من أفكارنا السائدة ومعتقداتنا الراسخة، قد جلبت معها بذور تنوير جديدة للمجتمع عموماً وللمرأة على وجه الخصوص. الكثير من معتقلات سوريا قد غدون فاعلات حالياً في الحياة الاجتماعية والشأن العام في داخل سوريا وخارجها بعد خروجهن من تجربة الاعتقال وهنّ يتمتعنّ بفهم أوسع و أكبر لدورهنّ في تحرير سوريا وإعادة بنائها، وقد يكنّ الفراشات اللواتي سيبعثن جمالاً وألقاً على هذا السواد الذي نحن فيه الآن.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر روزنة.