نكاد ننسى، ونحن نشهد تنفيذ الشق الثاني من اتفاقية الزبداني-الفوعة (يا لها من تسمية!)، أن السوريين قاموا من أجل تغيير سياسي يعتقدون أو يشعرون أو يأملون أن يكون فيه حياة أفضل لهم ولأبنائهم. وأن كل ما أراده السوريون المحكومون هو أن يؤسسوا لدولة قانون يتساوى أمامه الناس، فلا تغلب مصلحة أهل السلطة والنفوذ على القانون. كان ظلم واستبداد وتسلط له ناسه من جهة، مقابل مطالبة بالقانون والعدالة لها ناسها من الجهة الأخرى، تلك هي المعادلة الأولية للصراع الذي اندلع في ربيع 2011 في سوريا. ولكن لا يحضر في مشهد تنفيذ اتفاق الزبداني الفوعة أي شيء من حلم السوريين ذاك.
نشهد اليوم تنفيذ اتفاق باسم بلدتين يفصل بينهما مئات الكيلومترات ولا يوجد بينهما أي علاقة مباشرة ولا يوجد ما يختلفان عليه لكي يعقد بينهما اتفاق تسوية أصلاً. دع جانباً أن الاتفاق ينطوي على شيء غريب هو تبادل البلدات، فيغدو ابن الفوعة في الزبداني والعكس بالعكس. ثم دع جانباً أن التفاوض كان بين مسلحي المعارضة من جهة ووفد ايراني من الجهة الأخرى، وأن الاتفاق تكفله الأمم المتحدة بجلالة قدرها. الحقيقة هي أن ما يجمع البلدتين في اتفاق واحد هو تماماً ما يفرقهما في نظر طرفي الاتفاق، إنه الانتماء المذهبي.
عشرات الجرحى والمرضى مع أهاليهم يخرجون من الفوعة (الشيعية) إلى تركيا ثم ينقلون جواً إلى بيروت ثم براً إلى دمشق الواقعة تحت سيطرة النظام (العلوي). وبالمقابل ينتقل عشرات الجرحى والمرضى من الزبداني (السنية) إلى بيروت براً ثم جواً إلى تركيا الواقعة تحت سيطرة "العدالة والتنمية" (السني).
يكشف هذا الاتفاق عملياً ما انتهت إليه المساعي التشويهية المستمرة طوال سنوات الصراع، لحشر الصراع السوري في قالب طائفي مستقل بالكامل عن إشكالية الاستبداد والحرية. وفق هذا القالب يبدو أن الصراع هو صراع طائفي، ومن الواضح أن هذا هو الاعتقاد الأكثر شيوعاً اليوم بين مقاتلي الطرفين وجمهوريهما، بفعل تغذية إعلامية وثقافية هادفة. وقد انضوى الصراع السوري، بعد تعثر الثورة السورية، في ترسيمة صراع إقليمي سيئة المآلات، هي ترسيمة الصراع الشيعي السني. لم تتمكن الثورة السورية أن تتغلب على قوة الجذب الهائلة التي تمتلكها هذه الترسيمة. وبات قطبا الصراع الطائفي الإقليمي (إيران والسعودية) يتكلمان باسم قطبا الصراع السوري الداخلي (النظام والإسلاميين).
من المفهوم أن الصراع ضد الاستبداد السياسي ينفتح على أفق تحرري عبر تكريس آليات تلجم تعدي السلطات على الحقوق الأساسية للمواطن، ولكن لنمض مع الاعتقاد الشائع بأن الصراع طائفي، ونسأل على أي أفق يمكن للصراع الطائفي أن ينفتح؟ أو هل ثمة أفق لمثل هذا الصراع؟
هناك ثلاثة "آفاق" للصراع الطائفي. الأول هو أفق الغلبة الطائفية، أي أن تتغلب طائفة على أخرى وتخضعها لسيطرتها وفي هذا "الأفق" يبقى الظلم قائماً بطبيعة الحال. الثاني هو أفق الإبادة، أن تتمكن طائفة من إبادة أو اقتلاع الطائفة أو الطوائف الأخرى من أرضها، كما حدث للأرمن تحت سيطرة المسلمين في تركيا في مستهل القرن العشرين، أو كما حدث في الموصل للطائفة الإيزيدية على يدي داعش. المآل الثالث هو العجز عن المآلين الأول والثاني وهو يؤدي إلى ديمومة الصراع بما ينطوي عليه من موت ودمار مستمرين. ومن الواضح أن هذه أنفاق لا آفاق.
الأطراف ذات المصلحة تستمر في تشويه طبيعة الصراع، بغرض الهروب من التغيير السياسي الذي يحمل لها النبذ أو المحاسبة أو الحد من الامتيازات ..الخ، هذا مفهوم، ولكن ما القوة التي تدفع الفقراء والمظلومين هنا وهناك للموت دفاعاً عن خيارات لا تحمل لهم أي خير؟ ولا يحتاج إدراك هذا إلى المزيد من التأمل، لو نظر من يدافع عن النظام حوله لوجد أن سلطة النظام تمارس التمييز والتشبيح والفساد، فمن الطبيعي أن النظام لا يشكل حلاً لبؤس المدافعين عنه. وبالمقابل لو نظر من ينضوي في التشكيلات المسلحة للإسلاميين حوله لوجد أن سلطة الإسلاميين لا تقل عن سلطة النظام تمييزاً وتعسفاً وبعداً عن معايير العصر الحديث ومكتسبات الانسان فيه، وأن سيطرتهم لن تعني سوى المزيد من الغرق في الاستبداد والتخلف.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".