لا لكاتم الصوت

 لا لكاتم الصوت
القصص | 28 ديسمبر 2015

لم تكن المقاربات التي أوجدها السوريون المنحازون للثورة في رثاء ناجي الجرف بينه وبينه ناجي العلي من قبيل المصادفة. 

فكلاهما يحمل نفس الاسم وينتمي لثورة مغدورة، وقتل بكاتم صوت في المنفى وكلاهما لم يساوم على أخلاق الثورة أو يهادن الطفيليات التي نمت على جسدها. 

في فعل الرثاء يميل الناس للمبالغة، ولكن في حالة ناجي الجرف وهو سليل عائلة معارضة ثائرة يتعرض أبناؤها منذ خمسين عاماً لكل أنواع الاعتقال وكتم الصوت. فأعتقد أن هناك تقصيراً بالرثاء. 

إن كان ميزة أن ترثي شهماً هو تعداد مناقبه، فإن موت ناجي الجرف أعاد لمن عرفه أو عرف عنه الرغبة بتعداد مناقب الثورة نفسها. 

قيمها، أحلامها، انكسارتها وأيضاً الرغبة الجامحة لدى أعدائها بقتلها بكاتم صوت. 

قيل الكثير وسيقال أكثر عن هذا الشاب النبيل، المهم فيه أنه ليس تكريساً لبطولة مجانية بل هو عناد الحر والأخلاقي في البقاء ملتزماً بمبادئ ثورة الحرية والكرامة، فأصبح وجوده اليوم، مثل حسكة في زلاعيم قطيع كامل من الذئاب. 

ما يجب استذكاره اليوم في موت ناجي، هو مجموعة القيم التي كان يتمثلها، وهي قيم لا تموت بموت أصحابها بل على العكس تتغذى من دمهم النقي.  وإن كان لي أن أتكلم عنه وأنا الذي لا أعرفه شخصياً ولم ألتقِه فيمكن أن ألخص ما فعله من خلال متابعتي له على مدى أعوام  كما يلي: 

سوريا لكل السوريين، لا للطغاة ولا للبغاة، أعلام السواد أكفان الوطن، ثورة الحرية هدفها مستقبل لأجيال قادمة لتعيش بحرية لا لسماء غامضة تقتات على أشلاء. 

حب الحياة ليس خيانة، والموت من أجل حياة حرة وكريمة أنبل أنواع الشهادة. 

الثورة قد تضطر حمل السلاح كي تنقذ نفسها من السلاح لا أن تجعل من السلاح هدفاً. الجيش الحر يا مسند حلمنا. 

الإعلام الذي يجمّل الأخطاء يساهم بقتل من يدافع عنهم!  

الثورة ليست أن نقول لا للنظام فقط بل أن نتخلص مما تربينا عليه في مؤسساته، صار لنا معارضة حادة للنظام نعم ولكن علينا أن نتخلص من عقليته التي سجننا فيها. 

يجب أن يكون لدينا جرأة المراجعة النقدية، فلا نعيد هيكلة النظام، ولا نخلق المبررات، فحين نقول لدينا أخطاء، يجب أن نمتلك سمات النقد العلمي لهدم الهيكل وبناء جسم إعلامي سياسي صحيح وصحي. 

غياب المؤسسات الحقّة هو غياب أي أمل بالمستقبل، الحاضر متهم لأن الغد مشبوه ومشكوك بأمره، الأمل أن لا نتوقف عن الحلم والعمل. 

تحرير الإعلام المعارض من التمويل، هو الهدف الثاني لتحرير الثورة من الأوصياء والآباء و سياسات الآخرين. مازالت آليات تفكيرنا السيئة بالعمل الإعلامي ونحن فعلاً امتلكنا الصوت ولكن خسرنا الخطاب. لأننا محكمون ليس بروح الثورة بل بأغراض الممول. 

الموضوعية ليست أن تكون ضد النظام بكل خبر، بل أن تدافع عن مصداقية خبرك، لا يمكن أن تكون ثائراً حقيقياً بخبر بلا مصداقية. 

هكذا فهمت من أعمال وكلمات ناجي وإن لم أنقلها حرفياً لكني بالتأكيد نقلتها بجوهرها. وأقول إنه شارك وصاغ وساهم بشكل فاعل بمعظم الحملات الإعلامية للثورة، يمكن أن يكون أهمها "الرقة تذبح بصمت"، وآخرها حملة "احكيها صح" وهي آخر ما عمل عليه ناجي الجرف ضمن مجموعة لم تكفّ يوماً عن خلق الأمل وتصويب الهدف والبوصلة إلى مكامن العطب الحقيقي. 

استعادة هذه التصويبات والمتابعة بها هي أفضل رد على استشهاد الجرف. فلا نريد أن نغرق فقط بالحزن بل أن ننهض بما كان يحلم به ونتابع الطريق. 

أمّا من له مصلحة في قتل ناجي فهم مجموعة كاملة من القتلة المتضررين حقاً مما كان يفعله ويمثله. 

ليس أولهم العنف والإرهاب الذي تمارسه الدولة الأسدية الذي أنتج الدولة الإسلامية، وكلهما يستعير بشكل كاذب كلمة دولة. ويمارس كل أفعال العصابات والمافيات. 

المهم التذكير بأن الكتلة الصلبة الدموية للنظام هي من صناعة كل السوريين أيضاً، لذلك اليوم يدفع ثمنها كل السوريين. وعلى رأسهم مجموعة متكاملة من الأحرار، وما استشهاد أسامة اليتيم وقادة من ضباط الجيش الحر، ونشطاء حملة "الرقة تذبح بصمت"، وقتل المئات من الناشطين تحت التعذيب، وصولاً إلى تصفية قادة ميدانين لم يتشوهوا بالتطرف، إلا جزء من حملة شرهة لسحق فكرة الثورة السورية وإبقاء الساحة رهينة إلى التطرف أو الانصياع. 

وإن كان لي أن أصل إلى خلاصة من هذا الموت الفاجع أقول: حتى اليوم بقي ناجي العلي، وعشرات القادة العسكريين طواهم النسيان. فقتل قائد عسكري يمكن أن يُعوض ولكن قتل ما تبقى من أبناء الثورة السورية الحقة خسارة بحجم الفداحة. 

إن كان بعض القادة العسكريين ذوي الصبغات والخطبات الشعوبية الدينية الذين قتلوا دفاعاً عن الأرض قد شُبّهوا بالثورة في عامها الخامس، فاستشهاد ناجي الجرف ربما يصحح هذه المعلومة، فالعسكر المؤدلجون يشبهون شكل الثورة في عامها الخامس، أم ناجي الجرف فهو يشبه حقيقة الثورة في كل أعوامها. والأهم أن يبقى ملهماً لمستقبلها. 

عزاؤنا أنّه درّب المئات من السوريين، ونثر حنطته في أرواحهم، ألهم العشرات من جيل جديد، وآمن أنَّ تراب البلد مازال صالحاً لمواسم قادمة من الغلال. كان يشبه وطنه الذي يقتل يومياً بكاتم صوت وما زال ينبض بكلمة.. لا لكتم الصوت.  

وأخيراً إن كانت الرغبة أن لا نمارس التفجع على فقده الموجع فإن خير رثاء لهذا النبيل يمكن استعارته من صديقه وابن عمه مصطفى الجرف الذي عرّف عليه ببضع كلمات تقوله ببساطة تشبهه وتشبه مدينته السلمية الموجوعة على كتف الصحراء:

"ما كان يلزمكم أن تستعملوا معه كاتم الصوت.. 

كان يكفي أن تسمعوه بيت عتابا من سلّمية

وكان لفرط وداعته سيعطيكم روحه وهو يبكي.. ويبتسم".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق