يكتب السوريون في الأمل، ولكن تتابع الخيبات جعل الكتابة في الأمل لوناً من السذاجة والدروشة السياسية، فهل نستطيع القول هذه المرة أن مؤتمر الرياض يشكل خروجاً على النص، وأنه يحمل للسوريين بعض الرجاء؟
مع أنني ذهبت للرياض أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، ولكنني أعتقد أن الرياض سجل بارقة أمل للسوري التائه، وكان اختتام اللقاء يوم الخميس الماضي بلقاء الملك سلمان مناسبة لتجدد الأمل، فقد كانت اللقاءات في الواقع مشجعة ومؤثرة، وقبل أن نخرج من اللقاء كان الوزير كيري يعلن أن الدول السبعة عشر ستناقش مخرجات مؤتمر الرياض وأن الانطباع إيجابي تماماً وأن الرياض نجحت في توفير منصة حقيقية لأول مرة تلتقي فيها تحت قبة واحدة أهم الفصائل السياسية والفصائل الثورية المسلحة في سوريا، وينجحون في الوصول إلى هيئة واحدة تتولى الإشراف على التفاوض السياسي باسم الثوار مع المجتمع الدولي.
لا تختلف الأوراق الصادرة عن الرياض عن سابقاتها من الأوراق وقناعتي أن الأوراق كلها متشابهة، وقد أصبحت صياغة البيانات الختامية لمؤتمرات المعارضة لا تتطلب أكثر من محرر صحافي يعيد كتابة المعلومات المتكررة في بنك البيانات الختامية الذي صار جزءاً من أدبيات الثورة السورية.
ولكن الخصوصية التي يتميز بها مؤتمر الرياض هو أنه يأتي في سياق عملية سياسية دولية، وهناك دول كبرى تنتظر مخرجات الرياض، وهناك مواعيد محددة للقاءات دولية ستبني على نتائج الرياض وتحدد جدول التفاوض النهائي.
ومع أنه سبق أن اجتمعت 117 دولة لتأييد المعارضة السورية بصفة أصدقاء الشعب السوري ولكنها كانت لوناً واحداً، فيما كانت القوى المتحالفة من النظام تعقد في الوقت نفسه لقاءات أخرى في موسكو وطهران ودمشق ولبنان والعراق تهدف علناً إلى محاربة برامج أصدقاء سوريا، ومع أن الدول الصديقة كانت أكثر من مائة ولكن معظمها كان صداقات فارغة وباردة من النوع الفيسبوكي، في حين كان للنظام حليفان مقاتلان ضاريان جاء الأول ببارجاته وأساطيله وجاء الثاني بكتائبه الطائفية الانغماسية تحت رايات الحسين وكربلاء ولبيك يازينب.
ربما كان لقاء فيينا هو أول لقاء يكسر هذه القاعدة ويتيح لقاء حلفاء النظام وأعدائه في عملية سياسية واحدة، ويحقق خلال أسابيع معجزة توحد المعارضة السورية في الرياض، وهو ما يمهد لواقع جديد على الأرض.
ليس من الوارد القول بأن هذه الدول المتناقضة في مصالحها ورؤيتها وخلفياتها السياسية والدينية قد انجزت توحداً طوباوياً وتركت خلافاتها وتناقضاتها كرمى لعيون السوريين، والتزاماً بميثاق الأمم المتحدة، ستكون رؤية كهذه حلماً بارداً يصطدم بأول لحظة حقيقة حين تتناقض المصالح، ولكن مجرد الاجتماع والتوافق على برنامج ينهي المأساة فإن آفاق الحل تبدو واقعية إلى حد ما وفق تطورات الأحداث.
من المؤكد أن الاختيارات التي تمت في الرياض لتشكيل الهيئة العليا للتفاوض لم تكن معصومة، وقد كتبت قبل المؤتمر أنه من العسير أن تنتج هذه اللقاءات فريق النزاهة والحكمة والسداد، خاصة في الظروف الطاحنة التي تعيشها المعارضة السورية التائهة، خاصة أنها تجري على أرض لا تزعم أبداً أنها رمز للديمقراطية أو الحرية السياسية.
ولكنني على يقين بأن الهيئة تضم زعماء سوريين وطنيين حقيقيين، بعد أن أفرغ نظام البعث سوريا من القيادات الوطنية ودفع إلى تصحر سياسي رهيب، على مدى خمسين عاماً من حكم الفرد، وأعتقد أن واجبي الوطني يدفعني أن أتحدث باحترام وأمل عن هؤلاء الرجال الذين أناط بهم الدهر هذه المسؤولية الكبيرة.
لم أترشح للهيئة، لقد كان لدي شعور غامض بأننا لا نستحق الصفوف الأولى للثورة، فنحن لم نكابد ما كابده رفاقنا الشجعان الذين رزحوا في سجون النظام، وقدموا أولادهم وأهاليهم شهداء أبرار، فنحن نجحنا نسبياً في تخطي حواجز الخطر، وإن كان النظام لا يوفر أحداً وقد طاردنا بأحكامه الظالمة التي لا تنتمي لأي قانون، ولكن التضحية بالمال والمناصب ليس شيئاً أمام تضحيات الشرفاء الكبار.
رياض حجاب هو الاختيار الذي رضيه المشاركون، وهو رمز لأكثر مواقف الإقدام والشجاعة في الانحياز للشعب المقهور، فقد كان على رأس أعلى منصب في الدولة، ولم يمض أكثر من شهرين حتى فقد الأمل في قدرته على إحداث تغيير حقيقي في مشروع النظام الدموي وأدرك أن دوره لن يكون أكثر من تبرير جرائم الآخرين، وكان في الواقع موقفاً خطيراً أن يقدم على مواجهة النظام بجبروته وبطشه، ويتلقى خلال أيام عشرات أحكام الإعدام الغاشمة التي أمطره بها النظام، والإعلانات المتكررة التي كررها فلاسفة النظام أن الرجل مفضوح منذ زمن بعيد وأنه انتهازي ومتسلق ويعمل لمصالح دول أجنبية، إلى غير ذلك من قائمة الاتهامات التي لا تنتهي رغم أنهم أعلنوه قبل شهر واحد كأكثر رجال سوريا وطنية والتزاماً وتم اختياره عبر القيادة الحكيمة التي لا تنصت للأعداء رئيساً للوزراء.
لا يهمني في شيء شخص رياض حجاب، وعلاقتي به تقتصر على لقاءات مجاملة وبروتوكول، والانطباع الذي خرجت به على الصعيد الشخصي ليس مشجعاً، وهو كسائر بني آدم رجل خطاء وخير الخطائين التوابون، ولكنها مسؤولية حقيقية أن نكف عن لعبة التشويه التي نمارسها بأسلوب صبياني طائش كلما تقدم إلى موقع المسؤولية زعيم جديد، وفي حين يقدم الآخرون زعيمهم إلهاً يعبد، فإننا نرجم زعماءنا بحجارة التخوين والاتهام والتشويه حتى لا يثبت لنا على أحد قرار.
تحية للرجال الذين اختارتهم الثورة السورية ليكونوا صوتها وضميرها، وهذه دعوتي لكل الأقلام الشريفة أن تكتب في هؤلاء الرجال، وأن تفرض احترامهم على العالم، حتى يتمكنوا أن يستعيدوا لنا احترام العالم.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".