تبرعات ملك الفيسبوك نحو فهم أعمق للخير الإنساني

تبرعات ملك الفيسبوك نحو فهم أعمق للخير الإنساني
القصص | 07 ديسمبر 2015

مارك زوكربيرغ، الرجل الذي جمع العالم كله على مائدة فيسبوكية واحدة وغير طريقة حياتنا ونظرتنا للعالم، يقوم اليوم بعمل عملاق جديد ويعلن تبرعه بنحو خمسة وأربعين مليار دولار للعمل الخيري والإنساني، وهو أكبر تبرع جرى في تاريخ البشرية.

ويتكامل هذا الوقف الجديد مع الجهد المتدفق للأوقاف الخيرية الأخرى لزملائه من أثرياء العالم الذين رصدوا أموالاً مماثلة للعمل الخيري كبيل غيتس ووارن بافيت وأخيراً الوليد بن طلال، ومشروع بيل غيتس الهادف إلى جمع 600 مليار دولار من تبرعات الأثرياء لمشاريع خيرية إنسانية دولية تعالج أصل الكوارث ومخرجاتها، ومنذ عام 2004 فإن تبرعات الأثرياء الأمريكيين تتفوق على مخصصات الموازنة الأمريكية نفسها للعون الدولي الخيري، فقد انفق الأثرياء مبلغ 71 ملياراً في حين أن الحكومة الأمريكية أنفقت 20 ملياراً.

ومع أن الحديث عن هذه العبقريات الهائلة لا ينتهي وبشكل خاص عن تطور فكرة الوقف الخيري إلى الوقف الإنمائي، وتعاون القانون والدين والضمير على إطلاق هذا اللون الجديد من العمل الإنساني، وما يمكن أن يطال شعبنا المنكوب من هذا الخير العالمي الجديد، وهي آمال لا يمكن الوصول إليها إلا عبر مهارات وخبرات دقيقة في فهم طبيعة التمويل الدولي للعمل الإنساني والخيري ونظم المؤسسات التي تحكم هذا اللون من الإنفاق والتمويل.

ولكنني معني في هذا المقال بمتابعة تلك التفسيرات الكئيبة التي يواجه بها خطابنا الوعظي التقليدي هذا اللون من الخير، على أنها صدقات صادرة من غير مسلمين لا نصيب لهم في رضوان الله ولا في جنة الآخرة، وأنها ستكون يوم القيامة ركاماً من العمل الزاهق وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً.

هكذا نمارس احتكار الخلاص واحتكار الجنة واحتكار الحقيقة وليذهب الآخرون إلى الجحيم.

ولو كانت المسألة محض جدل في الاعتقاد لكان الوقوف عندها تكلفاً وتمحلاً، وكان من العقل تركها لجدل المسجد والكنيسة، ولكنها في قناعتي الجذر الأعمق لثقافة الكراهية التي تتسبب ولا تزال في كثير من النزاعات والتي تعتبر أهم أسباب تجنيد الإرهاب وتوظيفه ليضرب في أركان هذا العالم المضطرب.

حين أعتقد أن الخلاص في الآخرة خاص بمن يتبع ديني، وأن الآخرين في الجحيم فأنا أضع اللبنة الأولى في ثقافة الكراهية، وأوفر الحاضنة الطبيعية لأولئك الذين لا يرون في المختلف الديني إلا عدواً ينتظره غضب الله وسخطه، فما دام الله لن يرحمهم، ويتوعدهم بالجحيم المقيم فلماذا تريدني أن أكون بهم رؤوفاً أو رحيماً.

واحتكار الخلاص ليس مرضاً إسلامياً فحسب إنه مرض الأمم جميعاً، ففي كل دين هناك إقصائيون لا يرون مكاناً في الجنة إلا لأتباع دينهم، وهناك بصراحة احتكار خلاص يهودي وكاثوليكي وبروتستاننتي وأرثوذكسي وأخيراً يظهر بنسخته الإسلامية، وعلى سبيل المثال فالمصحف الذي طبع منه مجمع الملك فهد  180 مليون نسخة يفتتح بعبارة تمهيدية ليست من القرآن في شيء، تقول بالحرف الواحد: لا يسمع بالإسلام أحد يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن به إلا دخل النار!.

وبمثل هذا صرح البابا بندكت السادس عشر بان لا خلاص في الملكوت السماوي إلا للكاثوليك، وأن الآخرين لا نصيب لهم في مثلث الرحمات السماوية.

قناعتي أن القرآن الكريم أورد احتكار الخلاص في سياق أمراض الأمم وليس في سياق إيمانها، وطالب المؤمنين برفض ذلك وليس باتباعه، ويشير القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أونصارى، تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

وحين قال المسلمون مثل ما قالت اليهود والنصارى أنزل الله قرآناً يتلى لا يحتاج لأي تبرير أو تعليق: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة براهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً.

والإبراهيمية التي اختارها القرآن الكريم عنواناً للإيمان تشمل كل الأديان السماوية وتشمل على الأقل معها الزرادشتية والصابئة، وقناعتي أنها تشمل أيضاً كل الأديان في الأرض، وعلينا أن نبحث عن السبب الذي يجعل الهندوكية ديانة المليار إنسان تتحدث أيضاً عن أعظم الأنبياء والمقدسين باسم براهما.

وفي السيرة النبوية أن النبي الكريم قال لأصحابه مات الليلة أخوكم أصحمة بن أبحر النجاشي قوموا بنا نصلي عليه، فقال عدد من الصحابة كيف نصلي على رجل ليس على ملتنا ولم يدخل في ديننا، فأنزل الله قرآناً يتلى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب.

ومع ذلك استمر عدد من الصحابة بالاعتراض وقالوا كيف؟ وقد عاش الرجل نصرانياً يصلي إلى بيت المقدس ولم يصل ركعة واحدة صوب مكة، فأنزل الله أروع آيات القرآن الكريم، وأكثرها انفتاحاً وتسامحاً وسعة أفق، في نص رائع يرسم أوسع انفتاح ديني، ويرد على كل أوهامنا في احتكارالخلاص واحتكار الدين واحتكارالله واحتكار الجنة، وهي ما أختم به دون تعليق هذه المقالة: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم.

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق