الساعة /12/ظهراً، أمام الصرّاف الآلي للبنك العقاري في اللاذقية. صفّ طويل من الرجال والنساء، أغلبهم، في العقد الخامس والسادس من أعمارهم، يقفون بانتظار قبض رواتبهم التقاعدية.
طابور طويل لدرجة اضطرتني لإرجاء قبض راتبي لفرصة أخرى. الساعة /7/ مساء اليوم ذاته، لم يكن هناك أحد أمام الصرّاف، لكنّه كان خارج الخدمة. تتكرر محاولاتي غير الموفقة، حتى أتمكن بعد يومين أو ثلاثة، من سحب مبلغ /25/ألف ل.س، الحدّ الأقصى المسموح بسحبه في يوم واحد، والذي إن رغبت برفعه، لأتمكن من سحب راتبي دفعة واحدة، يستوجب علي دفع مبلغ شهري بحدود /500/ل.س. أجابتني الموظفة مبررة ارتفاعه، بأنه أقل من أجرة سيارة التكسي التي سأستقلها إلى البنك جيئة وذهاباً.
تستطيع أن تشاهد، أمام هذا الصرّاف وسواه، فيلماً قصيراً عن منعكسات ما يجري في كلّ سوريا على مدينة كاللاذقية، يبدأ بعرض صور أوراق النعوات التي تغطّي واجهة البنك الرخامية، بعد أن باتت أحد الأمكنة المفضلة لإلصاقها. شهداء من كلّ المناطق والطوائف والطبقات، حتى (الأرمن).
ليس حديث الرواتب حديث تفكّه، ولا مجرد حديث عن جانب من جوانب الأزمة السورية. فالشعب السوري، منذ ابتلائه بالاشتراكية، تلك الاشتراكية أعني!؟ صار شعباً يحيا على الراتب.
ليس صحيحاً أن هناك طائفة محددة لشهداء الجيش السوري، يزدحم الشهداء لدرجة يبدو بها الموت الطبيعي، شاذاً، في غير مكانه، وغير وقته، طُبع عليها، في زاويتها اليسرى من الأعلى، أو في وسطها تماماً، صور أصحابها، الذين حرصوا جميعهم، قبيل رحيلهم، أن تؤخذ لهم صور بهذه المواصفات، يحتفظون بها عند أهاليهم، خشية أن تخلو منها نعواتهم، يبدون بها رافعين أسلحتهم، بابتسامات عريضة لا تنجح غالباً في إخفاء حزنهم وقلقهم.
لن تتوقع أن ترى بجانبها نعوات شهداء الطرف الآخر، وإن كانوا من ذات المدينة وذات الحي، كما دون جنازات أو تعزيات. وأظنها لقطة سينمائية جيدة، أن تنتقل الكاميرا من صور الشهداء إلى الأحياء الواقفين في الطابور، وبصراحة أقول لكم، سيتبين للجميع أن أحوال الشهداء مع تلك الابتسامات، أفضل بما لا يقاس من أحوالهم. على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم ونظرتهم لما يجري، الذي يتبدّى بما يقولونه، مازحين أم جادين لبعضهم، وإن دون سابق معرفة:
-[والله دولتنا كريمة، لا نعمل ولا نقدم شيئاً، وهي، رغم ضائقتها، تعطينا رواتبنا].
-[يقولون سقط النظام منذ أربع سنوات، وهو لم يقطع الرواتب شهراً واحداً].
-[صدقاً..لا نستحقّ هذه الرواتب، أجمل شباب سوريا يموتون، ونحن نشكو إذا تأخرت رواتبنا يوماً واحداً].
-[والله، لو صار الراتب /10/دولارات، أشرف من /1000/دولار يشحدها السوري في الخارج].
أقوال كهذه تُردد كثيراً، فلا شيء فيها محظور أو وخيم العواقب، ولكن إذا صدف ولم يكن أمام الصرّاف سوى شخصين أو ثلاثة، فإنّه من الممكن أن تسمع:
-[يسمونه راتباً.. ماعاد يكفي لدخّان شخص واحد، فما بالك بعيش عائلة].
-[ماعاد للنقود معنى، راتبي على ارتفاعه، لايزيد عن /80/دولاراً، في الوقت الذي خفض راتب اللاجئ السوري في ألمانيا إلى /650/يورو، أي عشرة أضعاف راتبي].
-[فوق الموت عصّة قبر].
أمّا ما يمكن أن تسمعه من كلا الطرفين فهي أقوال غير محدّدة، لا تدلّ على اصطفاف سياسي، تظهر بطريقة مباشرة استسلام الجميع لواقعهم:
-[الحمد لله، نعمة..شيء أفضل من لاشيء].
-[لولا هذا الراتب لشحدنا].
-[تخلص..وكلّ شيء يتصلح].
-[بتهووون].
وإذا كان ما سبق يصلح كنهاية سعيدة للفيلم، فإن الواقع الذي لا تصرّح عنه هذه الأقوال على تنوّعها واختلافها، هو أن ما يزيد عن 60% من عدد مستحقي الرواتب في سوريا قد حرموا منها، بسبب انقطاعهم الاضطراري أو غير النظامي عن عملهم، وبالتالي توقّفت الدولة عن صرفها لهم، مطبّقة العديد من الاجراءات التدقيقية في عمليات قبض الراتب، وتجديد بطاقات السحب، التي باتت تحتّم تواجد صاحب الشأن مع بطاقة هويته الشخصية، في كل عملية مالية، أي ما عادت تنفع قرابة الأب أو الأم أو الزوج، كما ما عادت تقبل الوكالات العامة أو الخاصة في هذه الأمور.
أمّا الوفر الثاني الذي تأمّن للدولة نتيجة انخفاض قيمة العملة السورية مقابل العملات الصعبة، فهو انخفاض قيمة كتلة الرواتب للباقين من الموظفين والمتقاعدين إلى الربع أو الخمس، رغم الزيادتين الطارئتين عليها في السنتين الماضيتين، بلغت الأخيرة /2500/ل.س، أي ما يعادل /8/دولارات أمريكية.
ليس حديث الرواتب حديث تفكّه، ولا مجرد حديث عن جانب من جوانب الأزمة السورية. فالشعب السوري، منذ ابتلائه بالاشتراكية، تلك الاشتراكية أعني!؟ صار شعباً يحيا على الراتب، شعباً من الموظفين والعمّال والمعلّمين والجنود الذين يرضعون من ضرع الدولة، فالسوري الذي لا يقبض راتباً شهرياً من الدولة، يحصى رسمياً، ضمن العاطلين عن العمل، حتّى وإن كان صاحب محل تجاري أو مالك أرض زراعية.
نعم، الراتب مقدس في سوريا، مثله مثل جناسه، التراب، وربما أكثر، وبسبب قداسته المعترف بها من قبل الجميع، فإن (داعش)، مثلاً، تسمح للموظفين الرسميين بمغادرة (الرقة) كلّ أوّل شهر، لقبض رواتبهم، شرط أن يقصدوا (حماه) وليس سواها من مدن الكفرة. وأيضاً بسبب هذا الراتب، نعمة كان أم لعنة، سوريون كثيرون لم يغادروا بلدهم.
(دولار واحد يساوي 300 ليرة تقريبا).
*نشر هذا المقال بموجب اتفاق الشراكة بين "روزنة" و "هنا صوتك".