أطفالنا يعيشون بلا خيال

أطفالنا يعيشون بلا خيال
القصص | 29 نوفمبر 2015

يتردد "صهيب"، ذو التسع سنوات، بكتابة عبارةٍ من صنع خياله، متذرعاً بحججٍ كثيرة، ليقول أخيراً: "لا أعرف ما الذي يجب أن أكتبه"، تخبره مجدداً بأنك تريده أن يكتب أي شيء يخطر له، لكنه يكتب: "النظافة من الإيمان"!. نغيّر الطلب إذن، نقول للأطفال: ارسموا من خيالكم مدرسة تحلمون بها، نريدها مدرسة من صنع الخيال، من حلمكم!"، لكن طفلة واحدة فقط رسمت مدرسةً على غيمة، هي نفسها المدرسة التقليدية لكنها على الغيمة، أما البقية فقد رسموا المدارس كما هي، لتبدأ كل لوحة بأسوار حديدية، لكن الاختلاف الوحيد بينها وبين المدارس الواقعية أن أسوارها كانت ملونة!.

ما سبق، كانت جلسات تدريبية قمنا بها كفريق في جمعية "بحر" لحماية الأطفال من العنف (قيد التأسيس)، لعشرين طفلاً وطفلة من أعمار ومدارس وبيئات مختلفة، بأماكن متفرقة من دمشق، وهو تحت عنوان "كيف يكون التعليم أجمل وأكثر أماناً".

المشترك بين جميع هؤلاء الأطفال، أنهم كانوا تحت وطأة الحرب بشكل مباشر، ما أدّى إلى نزوحهم إلى أماكن مختلفة داخل دمشق، وقد بدّلوا العديد من المدارس حسب البيوت أو المراكز التي تنقّلوا إليها، طيلة ثلاث سنوات، كما أنهم في مدارسهم ككل الأطفال في سوريا، ومنذ عقود إلى الآن يتقوقعون داخل سور حديدي أسود، ومناهج صارمة، وملابس قاتمة تلوّنت قليلاً فيما بعد، ومعلمين لديهم أسلوب واحد ووجه واحد وشعار واحد.

من الطبيعي أن تؤثر الحرب سلباً على خيال الطفل وأحلامه، لكن مخيلة أطفالنا لطالما كانت جافة هكذا، حتى قبل الحرب، ولعقود كانت أحلامهم وتطلعاتهم لا تعدو أن يحلم الصبي بأن يصبح طبيباً أو مهندساً وفي أحسن الأحوال طياراً، أما الأكثرية من الفتيات فتحلمن أن يصبحن مدرسات كمدرساتهن، محققين أحلام أهاليهم  وتصوراتهم للمستقبل.

في استبيان لم يتم نشره، لإحدى المتطوعات في جمعية تعنى بالأطفال في اللاذقية عام 2009، طلبت من الأطفال كتابة أحلامهم أو رسمها، فكانت النتيحة المؤلمة والصادمة أن أحداً من الأطفال لم يستطع رسم شيء خيالي أو حلم بعيد عن الواقع! لتعمم التجربة على أكثر من مدرسة وتصل إلى نتائج متقاربة، وإلى صورة واحدة: "أطفالنا يعيشون بلا خيال".

 أجيال كاملة كبرت اليوم، منهم من حمل سلاحاً ومنهم من هاجر ومنهم مازال يكافح للبقاء، كلها عاشت ظروفاً متشابهة فكان التعليم أفقياً في مرحلة ما بعد "التصحيح" يهدف لتعليم إجباري وإلزامي ومجاني على حساب النوعية، وصنع أجيال مؤمنة بقضية محددة لتحقيق شعار يرددونه كل صباح " أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة"،  فكان أن خسر أطفالنا وخسرنا غاية التعليم وأهدافه التي أتت بها فيما بعد اتفاقية حقوق الطفل في ثمانينات القرن الماضي، وكانت كل اتفاقيات حقوق الإنسان التي سبقتها تحضّ عليها وتؤكّد على فكرة حرية التعبير والتفكير.

وفي مرحلة اقتصاد السوق الإجتماعي منتصف العقد الماضي، انتشرت المدارس الخاصة باهظة التكاليف المخصصة للطبقة العليا من الأغنياء، والتي اتبعت طرقاً غير تقليدية بالتعليم فكانت تتشبه بالمدارس الأوروبية من حيث استخدام اللعب في التعليم، والتشجيع على الموسيقى والرياضة واللغات الأجنبية كمواد رئيسية،

يتبعها بدرجات كبيرة، أطفال الصف الثاني من المدارس وهي المدارس الخاصة التقليدية القديمة لكنها كانت تتبع التعليم الرسمي وتعمل ضمن مساحة ضيقة من الحرية التعليمية أكثر ما تظهر باللغة الأجنبية وباصات النقل الخاصة للطلاب، واللباس.

وهذان النموذجان، لم يصنعا فرقاً واضحاً إنما فقط تغييرات فردية لندرة الطلاب الذين يرتادونها ولأن التجربة لم تعمم.

في تلك المرحلة، تغيّر اللباس المدرسي في المدارس الحكومية، وتبدّل من البذلة العسكرية إلى ألوان زهرية وزرقاء وخففت الرهبة المتعلقة بالتدريب العسكري و"طلائع البعث"، لتلغى تقريباً، لكن كل ذلك كان شكلياً لم يغيّر البنية الأساسية لطرق التعليم وغاياته وهي التلقين وصنع أجيال مؤدلجة منمّطة.

ثم أتت الحرب، هدمت الكثير من المدارس في أرياف دمشق، وتحوّل العديد منها إلى مراكز لإيواء المهجّرين في قلب العاصمة، وازدحمت بقية المدارس، ما زاد العبء على الطلاب الذين تعرّضوا إلى شتّى أنواع الانتهاكات لحقوقهم، وأصبح الرعب من القذائف يرافقهم، أثناء ذهابهم إلى المدرسة وأثناء عودتهم أو حتى ضمن صفوفهم وباحاتهم، ما أثّر على صحتهم النفسية والجسدية والعقلية.

وهنا تحول العالم الخارجي من عالم مثير فيه جاذبية وغنى للشخصية إلى عالم مهدد مقلق مليء بالأخطار، وخاصّة أن أي مؤسسة  أو منظمة لم تتحمل مسؤولية حقيقية في رعاية الطفل، فكانت الرعاية في الحدود الدنيا، بحسب ما ترخّص له الجهات المختصّة، ما أدى إلى تضاءل ذلك الشحيح من الخيال والحلم الذي كان يعيشه أطفالنا، ليحلّ محلّه واقع مأساوي سيطر على أروحهم وعقولهم وإبداعهم، فكانت البارودة والطيارة والصاروخ الأدوات التعبيرية الأكثر استخداماً، وانكمش دور المدرسة بشكل كبير، ليبقى فقط بشقّه التلقيني الهادف لصنع أطفال مؤدلجين، يعيشون على ثقافة الطاعة والقمع، ويتلقون تعليماً ضمن مناهج مجتزأة غير قابلة للتطبيق، وبأساليب تعليمية يتقنها معلمون يعيشون أيضاً ظروفاً قاهرة، عدا كونهم بينتمون لأجيال السبعينات والثمانينات، الذين عاشوا وتربوا بالطريقة نفسها، لتبقى الثقافة السائدة بين الأسرة والمجتمع والمدرسة، تساهم بشكل أكبر في نزع الخيال والحلم من طرق تفكير الأطفال، وترسلهم بأحسن الأحوال إلى عالمٍ يقبع ضمن "أسوارٍ ملونة".

*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق