"الواقعية" الروسية

"الواقعية" الروسية
القصص | 27 نوفمبر 2015

تكثر في الفترة الأخيرة المؤتمرات الدولية التي يشارك فيها باحثون أو "أشباه" باحثين روس، واثقو الخطى يمشون ملوكاً، إثر الانتصارات الدبلوماسية الفعلية على الساحة الدولية: احتلال وضم القرم، شلل أوكرانيا، التدخل العسكري في سوريا.. إلخ. وقول الأشباه في توصيف بعض الباحثين ليس انتقاصاً من معارفهم وعلومهم، معاذ الله، بل للإشارة إلى عملهم لدى مؤسسات ليست بحثية أو بيوت خبرة، بل غالباً هي مؤسسات أمنية أضحت منتشرة يميناً ويميناً على المشهد الروسي. 

وكما يقول المثل، فمن يُغيّر عادته، تنقص سعادته. وبالتالي، فقد ورثت روسيا "الليبرالية"، قومية التوجه ويمينية السياسة، نفس المنهج المقدّس الذي كان الصراط المستقيم في اتحادها السوفييتي السابق. بحيث أن الكثير، أو تقريباً، ممن يُشارك في مؤتمرات خارجية عليه أن يمارس هواية أو واجب الكتابة التقريرية، ليس للمجلس العلمي في مؤسسته فحسب كما يمكن أن تجري عليه العادة، بل للمجلس الأمني فيها أيضاً. والفارق الأساسي بين المدرستين، هو أن السوفييتية كان لها ان تعتمد أحياناً على كتبة تقارير جهلة أو أنصافهم، ونادراً ما كانوا أصحاب ثقافة وعلم. وفي هذا، فهي "الأب الروحي" لكتبة التقارير في مختلف الدول العربية بيمينها ويسارها. أما المدرسة الروسية، فهي على الأقل تلجئ إلى العالمين والمتبحرين بالأمر. أو يمكن لها أحياناً أن تُرفق العالم بالجاهل، فيكون للجاهل دوراً مزدوجاً كتسجيل محاضر الحوارات من جهة، وممارسة الرقابة الضرورية على العالم من جهة أخرى. ومن المنصف أن لا يجري تعميم التوصيف على مختلف المشاركين والمشاركات الروس في حقول العلوم الانسانية، فكم المتميزين والمستقلين نسبياً لا بأس به، وهو مرتبط أساساً بنوعية الحدث القائم وموضوعته ومدى أهميته لأولي الأمر في الكرملين.

لا يُكثر المشاركون الروس من الكلام، فهم أولاً وأساساً، منصتون جيدون. ويتشاركون مع الإيرانيين في ميّزة تقاسم الأدوار بين أعضاءهم المشاركين. فإن كانوا كثرة، فسترى منهم المعتدل والمتطرف والذي ما بين بين، ولكن دائما بتهذيب شديد. والمهم في ملاحظة شكل أداءهم، والكتابة عنه، ليس "الكاستينغ" أو الأنثروبولوجيا السوسيولوجية، بل هو مضمون الأداء حين التطرق إلى السياسات الروسية عموماً وفي مجمل أصقاع العالم، وخصوصاً في المنطقة العربية، وأكثر تحديداً في سوريا. 

فالخطاب الدوغمائي/الخشبي لم يعد من أدبياتهم إلا ما ندر، وبعد أن يقدموا لمطالعاتهم، وبعجالة، بتمسك روسيا بسيادة الدول، مطورين في هذا الاتجاه انتقاداً شديداً، من الممكن بالمطلق اعتباره متماسكاً، للأداء الغربي الذي يُحاول كما يقولون، منذ "وعد بلفور" واتفاقيات "سايكس بيكو"، فرض تصوره على المنطقة العربية، فهم سرعان ما يتمسكون بواقعية سياسية سينيكية ولكنها أقرب للمنطق الحربي المُتبنّى من دولتهم، بالمقارنة مع "اللف والدوران" الذي يعتري الخطاب الغربي "الصديق". 

وفي الحالة السورية، ما أشد صراحتهم عندما يسعون إلى تبرئة موسكو من التبني الأعمى للقيادة السورية الحالية إلا من أجل الحفاظ على مصالح الأولى. وفي هذا الاتجاه، فهم يسارعون للإشارة الصحيحة إلى أن عواصم الغرب هي التي فتحت أذرعها ومطاراتها لرموز السلطة السورية، وعقدت الاتفاقات الاقتصادية والإدارية معهم، كما استقبلت القيادات بحفاوة منقطعة النظير، في حين كان الروس يُفاوضون السوريين ومانحيهم من الإيرانيين على تسديد الديون المتراكمة منذ الحقبة السوفييتية. كما يُكرّرون على أن روسيا، وبعد إهمالها وتهميشها على الساحة الدولية، من خلال إحاطتها بعد سقوط جدار برلين بالعديد من القواعد الأطلسية في دول كانت في عداد جمهورياتها كالبلطيق وجورجيا، تريد العودة وبقوة إلى ساحة القرار الدولي.

كما أن ما يعتبرونه "إهانة" في المجالات الأفغانية والعراقية والليبية، فهو يجد صداه وتسديد فواتيره في جعل الجميع يدفعون الثمن في سوريا. كما هم يسخرون من الحجة الغربية، عن حق أيضاً، والتي لا تكل ولا تمل من تكرار أهمية قاعدتهم البحرية في طرطوس والتي لم تكن سوى تسهيلات بحرية كما يوضحون، مشددين على أنها الآن أضحت فعلاً قاعدة بحرية مهمة واستراتيجية. أما عن اسطورة علاقاتهم التجارية السابقة مع سوريا ومحاولة الحفاظ عليها فهي أيضا تحرّض ابتسامته، الصفراء غالباً، لأنهم يُذكّرون بأن مبادلاتهم مع سوريا خلال عشر سنوات لم توازي، قيمةً ونوعيةً، مبادلاتهم شهراً واحداً مع إمارة دبي. فمن المفيد إذاً الإنصات إلى خطابهم ومحاولة تحليله بعيداً عن الأفكار المقولبة، وبعيداً عن الاعجاب الساذج. ميّزتهم، إن جاز التعبير، أنهم واضحو المقاصد، وقد تأخرت قراءتنا لمصالحهم ولكيفية تعبيرهم عنها وكيفية حمايتها وكيفية التعامل معها. 

قبل ارسال هذا النص إلى النشر، أسقطت القوات الجوية التركية طيارة حربية روسية تقصف المنطقة الحدودية الشمالية الغربية من سوريا، حيث لا وجود البتة لـ"داعش" التي يدّعي بوتين مقارعتها. التوتر على أشدّه الآن وقد تمت دعوة تركية الى اجتماع أطلسي عاجل. بوتين يتحدث عن "طعنة في الظهر" وهو الذي أدمى بدعمه وبقواته آلاف الأبرياء في الوجه وفي الظهر في كل البلاد السورية. "كبرياء" الدب الخارج حديثاً من سباته الشتوي عنفاً وتحدياً دبلوماسياً، تعرّض لضربة قوية. وبالتالي فلا يمكن توقع ردة الفعل التي سيتبناها قيصر الكرملين، على الرغم من سواد الاعتقاد بلفلفة سريعة بمساعٍ أميركية وعدم تصعيد تركي.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق