في مديح ثورات الكراهية!

في مديح ثورات الكراهية!
القصص | 25 نوفمبر 2015

من قال إن الثورات وردية وتسبح في بحر من العسل؟ من قال إنها قادرة بلمسة سحرية على فعل المستحيل وأنها مملكة الأعاجيب، يخرج الزيت من صور قداديسها؟

بالطبع ليست كل ذلك، هي هدم بكل معنى الكلمة، لكل ما سبقها، لا حجر يبقى فوق حجر، تنتشر فيها البغضاء والكره والتصيد والسرقات لكثرة المارقين المنتفعين من الفوضى، يحدث فيها أن تتقوقع كل مجموعة طائفية وعشائرية وعرقية على نفسها، وتتخندق خلف مكونات وأساسيات وجودها، وينتشر التناحر على أحقية القيادة حتى ولو كان شارعاً صغيراً، أو حاجزاً، تمتلئ بطون بالمال وأخرى تبقى بلا مأوى ولا طعام ولاحتى ثياب.

إنها ليست فيلم رعب مدته ساعتان وينتهي، وليست عملية خطف تنتهي بدفع الفدية، إنها موت بطيء بكل معنى الكلمة.

هناك دائما على مر التاريخ فرق المنشدين المؤلهين للثورات، يضخون الدم والحماس في عروقها كلما شح العزم. وجودهم ضروري ومنفر بذات الوقت ولكنهم يستمدون وجودهم منها، ولولاهم سوف تبرد الهمة وتختفي. لا بأس إن وجدتهم يعزفون على الوتر الطائفي فهو ضروري وأحد أسلحة الاستمرار، سيعادون كل من يناقضهم، ولكنهم ظاهرة تنتهي عندما تضع الحروب الثورية أوزارها، عندها يأخذون لبوساً آخر ليس أقل حدة.

والسؤال المقلق هنا: هل تستطيع أن تواكب خراب البلد بعيون مفتوحة ومشاعر متبلدة؟ بالطبع لا تستطيع، هذه خيانة فالحواس الخمس لا تعمل بكاملها في ظروف كهذه.

في الثورات لا تستطيع أن تنتقد أحدا كل الأطراف سوف ترجمك، ولن تجد مكانا لك، يصنفونك بلا لون، رمادي وستكون تهمتك جاهزة، فإن كنت من الأقليات فأنت طائفي، وإن كنت غير ذلك فأنت عميل ومدسوس من النظام السوري. لا تحلم أن تلعب دور المُخلِص كما في الشجارات، فهذا  لن ينفع في الثورات وستكون أول المرجومين من كل الأطراف. إذا أردت أن ترتاح عليك أن تقف مع أحدهم وتغمض عينيك، وتهتف كما الجمهور، تمشي في سياقات ماتفرزه المجموعة التي تنتمي إليها. أو أن تقف بعيداً، لا ترى،  لا تسمع، لا تتكلم، تنسى أنك منتم لبلد يشهد حرباً مدمره.

وبالرغم من الأدوار التي تلعبها دول كثيرة على  الساحة السورية، وبالرغم من أن كل الجنسيات تحارب في البلاد، إلا أن ذلك لا يمنع من التغني في الثورة وفي مناقبها وما أعطته للسوريين من عزة وكرامة، وفي المقلب الآخر يتغنى المحسوب على النظام بالسيادة والممانعة في وجه المؤامرة.

بلد مزقه أبناؤه قبل غيرهم، فالكراهية البينية، دفعت السوريين لتبادل كتابة التقارير في بلاد الاغتراب، وفي تنظيم حملات فيسبوكية للضغط على جهات دولية لتحجب جائزة عن شاعر سوري.

وفي ظل" الربيع العربي" نجت كل من تونس ومصر من حمام الدم، وانتهى البلدان بنتيجة أقل دموية وكانت ثورتاهما  الرافع الأساسي لما تلاهما من ثورات في دول أخرى. الحالة السورية كانت الأقسى في الاستقطاب الطائفي والقتل بناء عليه، لقد كان هذا الأمر من كوابيس الشهور الأولى، لم يتوقع أحد أن يرى في ثورته جحافل الجهاديين من أنحاء العالم وتهديداتهم الطائفية "أتينا لنصرة الدين الحنيف"!

لا يمكن بأي شكل من الأشكال عند الحديث عن العنف في الثورة أن ننسى العنف الذي مورس من قبل نظام تفنن في وسائل اختراقه لها وفي أسلوب تعذيبه للأفراد، ورمي البراميل خبط عشواء على الأماكن المدنية، وسياسة تجويع المدنيين عبر محاصرتهم مع مسلحي مناطقهم.

العدالة، والمساواة والحرية، الثالوث الذي قامت عليه الثورة السورية، ضاع وتاه في فوضى السلاح والتبعية للدول واستخباراتها، وفي اللعب على الغرائز وتهيئة السوري ليحارب نيابة عن تلك الدول المد الشيعي مثالاً، وتحويل دفة العدو إلى عدو محلي طائفي، قائم على أساس ديني.

والمفارقة المضحكة المبكية مثلا أن تنعي الصفحات الثورية على الفيسبوك استشهاد "المناضل" صاحب مقولة "حسن زميرة"!، هل كان لأحد أن يتخيل مآلات البطولة والأبطال. وأن يخرج على إحدى المحطات اللبنانية لاجىء سوري ليقول: لقد توفي توأمي اللذين أطلقت عليهما اسمي "عمر" و"أبو بكر"، لأن المشفى لم يستقبلهما.

إن استقبال اللاجئين السوريين في لبنان على أساس طائفي من خلال حاضنة تيار المستقبل، وحاضنة حزب الله جعل السوري عرضة للابتزاز من باقي مكونات الشعب اللبناني، في التناحر وفي تصفية الحسابات البينية، فالكراهية والعداء وفي أقسى صنوفها تبدت في نبش قبر رضيع عمره شهران وإرسال  صورة جثمان الرضيع لوالده، كدليل على الرفض وعدم قبولهم له بينهم.

هل يوجد أقسى من أن تجد من فتحت له بيتك يوماً، يغلق بابه في وجهك؟ لماذا على السوري أن يحارب عن الجميع في الممانعة وفي ضدها؟ وأن يكون كبش فداء في أرضه ودمه وحاضره ومستقبله وماضيه؟

نعم إن الثورات ضرورة، ولكنها قاسية ومدمرة وفيها خسارات ثمينة، فيها أوطان تتمزق، فيها أرواح تسلب، فيها جيل كامل بلا تعليم، فيها معامل تسرق وآثار تُهرب. وهل يدرك من لعب على الوتر الطائفي أنه أساء لثورته قبل أي أحد، فما معنى أن تُشيطن طائفة كاملة؟ ومن قال أنه بالشيطنة تجذب الآخر إليك؟ ثم من قال إن الفاسدين واللصوص وكُتاب التقارير بدخولهم الثورة يتطّهرون!

من وضع حجة أن النظام هو السبب في كل البلاء حتى يتملص من المسؤولية الأخلاقية والقانونية، وهو مذنب أيضاً فيما آلت إليه الأمور؟ نعم النظام مسؤول مسؤلية كبيرة ولكن من تسلم دفة القرار في المعارضة ومن جاهد حتى يحصل على لقب ممثل الشعب السوري يتحمل المسؤولية بلاشك، هذه ليست مناصب فخرية.

يبقى السؤال الأهم المعلق في الهواء: من دافع عن الكتائب الإسلامية والتي انطلقت منها "جبهة النصرة" ومن ثم "داعش"؟ ومن يحاول الآن اللعب على الوتر الدولي لتحويل جبهة التصرة إلى جبهة معتدلة؟

كل هذه الأسئلة تدفعنا للقول بأن الشارع تُرك لمصيره، مدن بكاملها هجرها الطير قبل البشر، لم تهتز شعرة من أحد، أقصى المساهمات منشورات تهديد وعويل على الفيسبوك من عتاولة ( الثورة مستمرة حتى آخر سوري).

لم يعد مجدياً الندب واللطم على ما فات، فالأمور خرجت من يد الجميع وأصبحت بأياد غريبة، دول لها مصالح في البلاد باتت هي صاحبة القرار ، لم تعد هناك دولة بالمعنى التقليدي ولم تعد هناك ثورة، هناك خريطة أمام تلك الدول، يتم اقتسام سمائها وأرضها وبحرها، ونحن مازلنا ننهش بعضنا. يقال إن الثورات تُخرج أسوأ مافي البشر، ولم يقل أحد أنها تخرج أفضل ما عندهم، ويبدو جليا أن أفضل ما يخرج ليس محسوساً ولن يشعر به أحد في ظل الفوضى والخراب على الأرض وفيسبوكياً!.

 

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق