بصياغات متعددة، طائفية وسياسية واجتماعية، أعيد طرح السؤال مرة أخرى من قبل جمهور الثورة السورية، الذين رأوا في الهجمات على برج البراجنة تجرعاً للخصم "حزب الله" لكأس الموت ذاته، الذي تجرعوه مراراً منذ العام 2011، وبينما أدان البعض هذه "الشماتة" ووجد في الإرهاب اليد ذاتها ووجد في الجميع ضحايا للنظام، أعيد طرح السؤال: لماذا لم تقم ثورة في الساحل؟.
وبقدر ما يحمل السؤال من تبسيط للقضية السورية، بقدر ما تكمن الإجابة في معرفة التناقضات التي مزجها هذا النظام ولعب عليها للوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم من صورة طائفية للصراع تخالف في الواقع حقيقة الأمور.
فبينما أحست الطائفة العلوية بالغبن والاستبعاد طوال مئات السنوات، أراد حافظ الأسد أن يصوّر وصوله للسلطة في سوريا انتصارا لها، وزيّن الأمر لأنصاره من هذه الطائفة على أن السلطة قد أصبحت بين أيديهم، على الرغم من أن أول من قام بتصفيتهم كانوا ضباطاً من هذه الطائفة ورفاقاً له، من بينهم إبراهيم ماخوس ومحمد عمران وصلاح جديد، فكان منهم المنفي والقتيل والسجين!.
ووراء هذا المشهد كان تجار دمشق وحلب هم الأنصار الحقيقيون لحافظ الأسد في ترسيخ ديكتاتوريته، وكانت عبارات من مثل "طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد" أو "إلى الأبد يا حافظ الأسد"، عبارات صدرت من قلب العاصمة والمدن الكبرى، وصعد لمنابر المساجد من الخطباء من مجّد الرئيس القادم وأثنى عليه أكثر، وتبلور أكثر فأكثر التحالف بين السلطة والدين ورأس المال.
ومنذ لحظة استلامه للسلطة بدأت سياسة عسكرة الريف في الساحل، وزاد بشكل كبير عدد الضباط من هذه المنطقة، وصار حلم الشباب هناك الالتحاق بالجيش أو بالأفرع الأمنية، حلم دغدغه رجال دين الطائفة الصاعدون مع صعود العائلة الحاكمة، عازفين على وتر الاضطهاد طويلاً.
ولم تكد تظهر براعم ثورة النقابات وحركة الاضرابات العامة في دمشق وحلب في أواخر السبعينات حتى أطاح بها حافظ الأسد بقبضته الحديدية منشئاً ما سمي يومها بسرايا الدفاع بزعامة رفعت الأسد الأخ الشقيق لحافظ، والتي قامت بممارسات طائفية تم استخدامها حينها لتوطيد السلطة وسحق خصومها ولتركيع المجتمع السوري أمام ديكتاتورية فرد، سرعان ما نفى أخاه رفعت ليتربع على عرش وطن أصبح أشهر ما فيه سجونه الدموية من صيدنايا إلى تدمر إلى سجن المزة العسكري، وكان من بين نزلائها آلاف من ريف اللاذقية وطرطوس، بينما تم فرض سياسة التقشف وطلب إلى الناس أن تجوع لأجل الوطن الذي يواجه مؤامرات لا تنتهي!.
تصاعد في التسعينات أكثر فأكثر تحالف العائلة مع رجال الدين من كل الطوائف، وفرضوا سلطتهم على المدن مع برجوازية طحلبية طفت على السطح كان مشروعها جني المال سريعاً، ولم تؤسس لأي مشروع اقتصادي وطني.
الانتقال الصوري للسلطة من الأب إلى الابن الذي أنجز بسرعة قياسية حمل بعض الأحلام التي تبخرت سريعاً، وتم نشر عبارات للاستهلاك المحلي من مثل "الرئيس شفاف لكن من حوله فاسدون" ولم تتغير سياسة السلطة فصعد رجال مال العائلة أكثر، وزادت ممارسات أقرباء الرئيس فظاظة، الممارسات التي وجهت ضد ريف اللاذقية منذ ثمانينات القرن الماضي وهي حاضرة أكثر اليوم في بيت الأسد، مقر العائلة الحاكمة!.
ولهذا كله لم تكن الثورة السورية سوى تعبير عن انتفاضة الريف المهمش، الريف السني، لو أردنا أن نكون محددين أكثر، هذا الريف الذي صوّر له أن الريف العلوي هو من يضطهده!.
لا يمكننا أن نخلي مسؤولية ريف الساحل السوري، العلوي خاصة من المسؤولية بتقصيرهم بالاعتراف بأحقية مطالب الاصلاح التي نادت بها الثورة في عمر سلميتها، خصوصاً وأن هؤلاء هم من خبروا الاضطهاد والفساد أكثر من سواهم، خصوصاً من هذه الطبقة الحاكمة اليوم، وهم أكثر من يعرف أن هذا الصراع كان طبقياً دوماً، ولم تكن الطائفية سوى غطاء أريد منه استغلالهم.
وبعد خمس سنوات من عمر هذه الثورة التي تسلحت والتي ركبها فاسدون ومتطرفون وحورب فيها الجيش الحر من الجميع، محلياً ودولياً، وتبنى ابن الريف في الساحل نظرية "الإرهابيين"، وتبنى أهل الداخل نظرية "النظام الطائفي" فتقطعت السبل بأبناء البلد الواحد وتم تفخيخ الطرقات بينهم بالكامل!.
ولست أظن بعد هذا أنه من السهولة بمكان ايجاد مخرج وطني للجميع، رغم أن مصلحة الجميع، جميع أبناء الطوائف في سوريا، تكمن هنا!.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".