الحراك الدبلوماسي النشط حول سوريا بات متمحوراً على مقولة واحدة: "الحرب على الإرهاب". لا سيما بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة التي ضربت باريس، وقيل أنّ "الدولة الإسلامية" أعلنت مسؤوليتها عنها. أما مصير الأسد، الذي يتحمّل ونظامه المسؤولية الأولى عن الكارثة السورية المستمرة، فقد تراجعت بشأنه أكثر من أي وقت مضى، حدّة تصريحات المسؤولين من "أصدقاء الشعب السوري"، الذين كثيراً ما باعوا السوريين أوهاماً عن تمّسك هؤلاء الأصدقاء برحيل الأسد، وانحيازهم المزعوم لثورة الشعب السوري، وحقه في الحرية والكرامة.
ولمّا كان النظام السوري وحلفاؤه هم أكثر المستفيدين من هذا التحوّل في وجهة الموقف الدولي حيال "الملف السوري"، فإنه من غير المستبعد أن يكونوا ضالعين بصورة أو بأخرى في تمكين "الإرهاب" ومنظماته داخل سوريا وخارجها. وإنّ إمكانية كهذه متوفرة لكل من شاء "الاستثمار" في بورصة "الجهاد العالمي"، سواء عبر إحداث اختراق في إحدى خلايا الشبكات الجهادية وتجييرها للعمل وفق مصلحته، أو بترتيب صفقات ما مع بعض الجماعات هنا أو هناك على أساس من "تبادل المنافع"، وقد توسّعنا حول ذلك في وقت سابق.
في الحد الأدنى، استطاع النظام وشركاؤه الاستفادة من سلوك خصومه المفترضين من "المجاهدين" أنفسهم، وما يرتكبونه ويفاخرون به من ممارسات إرهابية. وقام بتنشيط شبكة هائلة من الميديا والعلاقات العامة عملت على ذلك بهدف تصيير "الحرب على الإرهاب" العنوان الأوحد لما يجري في سوريا، بما يعنيه ذلك من تعمية على إرهاب النظام نفسه. كيف لا وهو "الحليف" في "الحرب على الإرهاب"!
غير أنّ ما سبق ما كان لينجح فيه النظام ولا أن يجد قادة "الغرب" مسوّغاته أمام ناخبيهم لولا توافر جملة من المعطيات على أرض الواقع، ساهم النظام نفسه في تعزيزها بلا شك، غير أنه كان يكمل ما بدأته فئات من المعارضة السورية، منها على الأخصّ "جماعة الإخوان المسلمين"، وبعض الملتحقين بها من "يساريين" سابقين. فالإخوان المسلمون وأشباههم، ومن ورائهم رعاتهم الإقليميون، سعوا بشكل ممنهج إلى عسكرة الثورة وأسلمتها وتطييفها منذ الأشهر الأولى، وكان لذلك دور حاسم في تمكين "المجاهدين" من اختراقها.
على ذلك، يجب الاعتراف أنّ هذا التحول في الموقف الدولي قد سبقه فعلاً طغيان الصبغة الجهادية على صورة المعارضة المسلحة في سوريا، حتى كادت أن تصبح السمة العامة والوحيدة التي تجمعها، مع تفاوت في الدرجة بين فصيل وآخر. وبات قسم غير قليل من"المكوّن العسكري للثورة"، على نحو ما دأب بعض منظري العسكرة على وصفه، معرّضاً للوسم بالإرهاب، منذ أن استطاع تيار "الجهاد العالمي" أن يجد له موطئ قدمٍ راسخ في سوريا، عبر تنظيم "القاعدة" وفرعه السوري "جبهة النصرة لأهل الشام" بزعامة الجولاني، التي دخلت في "تحالفات" مع فصائل وازنة من "المكون العسكري" نفسه. يُضاف إلى ذلك ظهور انشقاق القاعدة الأكثر تطرّفاً "الدولة الإسلامية"، وإعلان العديد من مجموعات المعارضة المسلحة ولاءها للدولة ومبايعة "الخليفة البغدادي".
ومع تطوّر الموقف على الأرض، غدت الجماعات المسلحة الإسلامية، على اختلاف درجاتها في التشدّد، سيّدة الجبهات والمسيطرة على معظم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، على حساب "الجيش الحر". وبعد تطويبهم "ثواراً" واعتبارهم "جزءاً من ثورة الشعب السوري"، في بيانات رسمية كما على لسان معارضين (بعضهم "علمانيون"!)، حلّ "المجاهدون" (أعداء الديمقراطية ومكفّروها)، محلّ "الثوار" (طلاّب الحرّية وشهدائها)، الذين أصبح بعض من نجا منهم من بطش النظام ضحايا لجهاديين من مشارب مختلفة، قتلاً أو اعتقالاً.
كل هذا وتستمر مباركة ممثلين للمعارضة لانتصارات "المجاهدين"، ومحاباتهم وتبرير ممارساتهم. هذا الموقف المداهن للجماعات الجهادية، و"التضامن" معها في حالات كثيرة، يجد تفسيره في أنّ ساسة معارضين ومثقفين، ممن احتكروا لأنفسهم "تمثيل الثورة"، بدلاً من الإقرار بأن هدف الثورة كان ولم يزل هو التغيير الديمقراطي والعمل بدلالته، اختزلوها إلى محض الإطاحة برأس النظام، ووجدوا في "المجاهدين" القوة الضاربة التي قد تساعدهم في ذلك. ويبدو أن السوريين اليوم يحصدون نتائج الرهانات الحمقاء تلك.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".