تبدو سوريا وكأنّها تعلن النفير العام "سفر برلك"، سواء في مناطق الموالاة أو الفصائل المعادية للنظام السوري. دلالة أولية لذلك: اقتناع أغلبية الشباب السوري برفض الخدمة الإجبارية، وأن الحرب الدائرة في بلاده، لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فالحرب أصبحت تُقاد إقليمياً وعالمياً، وبالتالي هناك ما يشبه الهروب الجماعي للشباب السوري من كافة جبهات الصراع. النظام أعلن منذ عدّة أشهر أنه يفتقد للكادر البشري، وهناك معلومات مؤكدة عن تخلف آلاف الشباب عن الالتحاق بالخدمة الإجبارية، وهذا لم يعد مقتصراً على المناطق الخارجة عن النظام، وليس مقتصراً كما يحلو لعقل طائفي القول بأن "السنة لا يذهبون للخدمة في الجيش النصيري". الامتناع عن الالتحاق بالخدمة أمر شامل وعام، وفي كافة المدن السورية ومن كافة الطوائف كذلك.
قبل تحوّل الثورة إلى حرب كاملة، كان الشباب مخيّراً بين الالتحاق من عدمه، بل إن النظام شجع على الهروب وكذلك الأماكن الخارجة عنه. وبالمقابل كانت تأتي للقتال إلى جانب النظام، مليشيات من خارج البلاد، وكذلك قَدِم للفصائل الإسلامية ميليشات من الخارج. ولكن كل ذلك بدأ يتراجع مع تحول سوريا إلى ما يشبه المستنقع الدموي، فلا النظام بقادرٍ على الانتصار ولا الفصائل كذلك. هذا الوضع أدى إلى ما يشبه النفير العام، فـ"داعش" تمنع الشباب من السفر وتدفع مبالغ كبيرة للإنضمام إليها، وزهران علوش أعلن النفير العام قبل عدة أشهر، والنصرة وأحرار الشام تعطي أجوراً عالية للالتحاق بصفوفها. النظام بدوره وبعد أن فشلت المليشيات السورية التي أخترعها في أن تكون بديلاً لجيشه، ومع التحول من الهيمنة الإيرانية إلى الهيمنة الروسية على قرارات النظام عاد ليفعل الجيش مجدداً، فإيران كانت مع تحطيم الجيش واستبداله بمليشيات تابعة لها، أما الروس فيرفضون ذلك ويعملون على إعادة تأهيل النظام بأكمله.
السياسة الروسية كما السياسة الأمريكية تعرف كلفة إنزال الجنود على الأرض فلديها تجربة أفغانستان والعراق وفيتنام، وبالتالي تريد جنوداً سوريين يتحركون على الأرض في المناطق التي "تستعيدها" وجيش للنظام، بالكاد يحمي حدود المدن التي تحت سيطرته. ينجح النظام بتلك الحماية بسبب التضييق الأمريكي لوصول السلاح إلى جبهات القتال.
سنوات محاربة النظام وتعاظم شأن الجهادية في سوريا، أدت إلى هجرة أغلبية الشباب السوري إلى الخارج، وقتل أكثر من 300 ألف إنسان، ويمكن القول أن بينهم أكثر من 200 ألف شاب، وأكثر من نصف مليون في المعتقلات أغلب الظن. سوريا بذلك يرحل عنها جيلٌ متعلم وفيه نسبة كبيرة من المثقفين، ولو أضفنا هجرة أغلبية الطبقة الوسطى السورية والشباب المدني المسيّس ستكون الحصيلة كارثية بكل ما تملكه الكلمة من معنى. هذا مما لا يهم النظام وطبعاً المجموعات الأصولية والجهادية.
سياسة النظام الأخيرة في ملاحقة الشباب، أصبحت تطال تفتيش البيوت ومراكز النت، والحواجز الطيارة، وحواجز الطرقات العامة، وهناك تعميمات بالتضييق على التأجيل للخدمة. وفي الشهر الأخير، بدأ التدقيق على المواليد التي تبدأ من 72، وحتى سن الخدمة العادية. هذه السياسة أدى في السنوات الخمس إلى نزيف كامل للشباب، ولكنها في الشهر الأخير تعبر عن إفلاس كامل لجيش النظام عن القيام بأية معركة. وسيسأل أي مدقق، ولكن هل بمقدور الكتلة الشبابية التي يتم اختطافها وأخذها للخدمة الإجبارية أن تشكل جيشاً في مواجهة الفصائل المقاتلة، والتي أصبحت مدربة وشديدة البأس في الحرب؟ الأكيد أن كثيراً من الشباب سيرفض الذهاب لجبهات القتال وقسم سيهرب بأي شكل وقسم سينشق حالما يوضع في جبهات القتال. وبالتالي ليس من فائدة تذكر لترميم جيشٍ أصبح غير قادر على القتال وقواته المتبقية إما تفكر بالهروب أو تعاني من انهيارٍ نفسي كبير تجاه حرب عبثية، وتجاه نظام أرسل مسؤوليه أولادهم إلى خارج سوريا.
قبل وقت قصير أصدر مجلس الإفتاء الأعلى بياناً دعا فيه للالتحاق بجيش النظام، واعتبر ذلك "فرض عين"، وفي مدينة السويداء يحاول النظام التضييق على الشباب للسبب عينه، ولا سيما بعد مقتل الشيخ وحيد البعلوس، الذي منع النظام لأكثر من عامين على سوق شباب تلك المدينة للخدمة الإجبارية. وطبعاً هناك ضغط مستمر وتخويف مستمر من إسلاميين قادمين للانتقام من كل من صمت عن جرائم النظام ومن وقف معه ولم ينشق عنه طيلة السنوات السابقة. التخويف هذا يستهدف كل من لا يزال في مناطق النظام ومن كافة الطوائف.
السفر برلك الأصلي كان من أجل الدول العثمانية، التي سميت بـ"الرجل المريض"، والنظام حالياً يقوم بسفر برلك لأنه أصبح خارج الخدمة، ويريد بعث الحياة بأوصاله، ووفقاً لرغبة الروس في ذلك. بعكس ذلك، فأغلبية الشباب السوري طامحة ومنذ 2011 إلى حياة أفضل للجميع، وليس ليقتلوا أولاً أو ليكونوا وقوداً في حرب أصبحت تخدم مصالح غير سوريا بامتياز. إذاً على الرجل المريض أن يلاقي وجه ربه.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".