داعش كمنتج حضاري للحرب الباردة

داعش كمنتج حضاري للحرب الباردة
القصص | 09 نوفمبر 2015

بعد نهاية الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، أخذ الباحثون الغربيون وتحديداً الأمريكيون منهم؛ يصورون حقبة جديدة من السلام العالمي الذي ستعيشه المعمورة بعيداً عن الاضطرابات والنزاعات. القليل من التكهنات رسمت سيناريوهات لقلاقل واضطرابات هنا وهناك ستندلع في بعض الدول أو الأقاليم التي ما تزال تتلمس خطاها في سلم التطور الحضاري المزعوم والمبني على رؤية تغريبة مماثلة لما وصفه "ادوارد سعيد" في حديثه عن الاستشراق كأدة للاستعمار الثقافي للعالم.

وبالفعل عاش العالم في هدوء نسبي خلال حقبة التسعينات، لم ينغص هذا السلام العالم سوى بضعة حروب "صغيرة" البوسنة وصربيا وفي منطقة الخليج العربي، إلا أن العالم بمجمله كان يتجه نحو بناء سلام عام وفق المنظور الغربي الأمريكي.

لكن الحكاية انقلبت مع بدء الألفية الجديدة وأخذ الجمر يتحرك من تحت الرماد، وكانت حرب أفغانستان وتلتها العراق والتي شنتها قوى عالمية غربية تحديداً ضد الخطر القادم من الشرق والمتمثل بالإرهاب وتحديداً الإسلامي منه. وأعقبتها حرب تموز ومن ثم حرب غزة بحيث تم تكثيف الصراع العالمي في منطقة جغرافية لا تتجاوز مساحتها مساحة ولاية واحدة في أمريكا.

مع انطلاقة الربيع العربي أخذ الصراع العالمي بآليات الحرب البادرة يعود للسطح و جليد هذه الحرب المطمور بإداعاءات النخب الثقافية التغريبية وسياسة الاستشراق شرع بالذوبان مع أولى انتفاضات العرب في تونس ومن ثم مصر فاليمن وصولاً لسوريا. هذه الأخيرة التي مثلت القشة التي كشفت هذا الستار الواهي الملقى على حرب بادرة بين قطبين و معسكرين ما كان لها أبداً ان تنطفأ لا في التسعينيات و ا بعدها.

سوريا اليوم هي التكثيف الأقصى لحرب باردة معلنة بكل وقاحة بين المعسكرات العالمية وانقساماتها الثقافية والحضارية. والتدخل الروسي الأخير بدأ برسم حدود طرفي الصراع بكل حدة ودقة قتالية. وما كان فيما مضى معسكراً اشتراكياً غدا اليوم معسكراً شيعياً تدعمه الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا في مواجهة مع المعسكر السني المدعوم من الغرب وكنيسة العالم الحر البروتستانتينية والكاثوليكية.

حرب سوريا ليست ذات أبعاد كونية فقط من منطلق المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، بل إنّها تمثل صراع حضارات وثقافات عالمية. وليست داعش إلاّ إفرازاً وتشكيلاً لهذا الصراع الثقافي الحضاري والذي تم نقله من الغرب وإلقائه جنيناً في بادية الشام ربى ونما خلال خمس سنوات من حرب طاغية الشام –بشار الأسد - على شعبه الأعزل. فآلاف المهاجرين القادمين من كل دول أوروبا والغرب ليسوا إلا قيحاً انبجس من خراج ثقافة الهيمنة الحضارية والثقافية على الشعوب الصغيرة من قبل شعوب الدول الكبرى.

وليس بأكبر دليل على أنّ هذا الوحش الداعشي كان ومازال ينمو ويزكى من قبل الكل، إلاّ أنه على حرب مع الكل على حين أن الكل في وفاق معه. بدءاً من الأسد مروراً بروسيا وصولاً لقوى الغرب من تركيا وأوروبا والولايات المتحدة. داعش تحارب الكل، والكل لا يحارب داعش. فطبعاً لا تشكل تلك الضربات والقنابل التي تلقيها قوات التحالف إلا مفرقعات خلبية لا تنقص من داعش إلا زيادة في التعبئة الجهادية لتمضي في شعارها "باقية و تتمدد".

وكما دفع الشعب السوري ثمن التهميش والهيمنة لثقافة الاستبداد في دولة البعث والأسد منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة، فهو اليوم، وسائر سكان المنطقة وأقليم الشرق الأوسط، يدفعون ثمن سياسة الصراع والهيمنة الحضارية في العالم. وما تفرضه داعش اليوم كمنتوج حداثوي لهذا الصراع هو التتويج الأكمل و الأنقى له. وقد يطول الخلاص السوري منه سنيناً عديدة، إن كان كتب لنا الخلاص بدايةّ من "داعش الأسد" وشبيحته.

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق