سيبدو القفص الحديدي المصنوع من مخيال القوة، من نفس المصدر اللغوي للغة القصف، التي تستعمل عادة، حين تواجه قوة عاتية متكبرة بجبن أحياء لا تميز بينهم إن كانوا أعداء أم مجرد ضحايا قدرهم وضعهم في نفس المكان.
مرموزية القفص الذي يوضع به البشر خطيرة للغاية، فعادة مستمدة من روح حديقة الحيوان، لعزل شركاء الإنسان في أقفاص تروضهم بحجة أنه يحميهم بعد أن دمر غابتهم وأماكن سكناهم لأسبب تتراوح بين الأنانية والطمع والتسلية والتفاهة.
في بداية هذا القرن المجنون مارست القوة العاتية للولايات المتحدة كل قدراتها الاستعراضية على القصف من الجو، ثم ذهبت إلى المقصوف تلتقط منه من لم يقتل بطائراتها الذكية وتأخذه أسيراً مدموغاً بتهمة الخطورة والتوحش، وتضعه في سجنها الشهير الذي يسمى غوانتنامو، تجعلهم يرتدون تلك الثياب العجيبة من اللون البرتقالي. وهنا نحتاج إلى مختصين في علم دلالة اللون لربط البرتقالي بالإنسان المأسور المنخفض بالرتبة إلى مرتبة الحيوان المتوحش.
بعدها بسنوات بمحاكمة قلّما يراها أحد تعتمد داعش التكتيك نفسه، تبتكر أقفاصها الخاصة وتلبس ضحاياها نفس الثوب البرتقالي وكأن المصنع الذي يروج لهذه الموضة من الثياب مصدره واحد.
بين فرط القوة لاسترداد الهيبة قامت حرب جورج دبليو بوش، وبين الإفراط بالتوحش للوصول للتمكين تقوم اليوم حرب داعش المستمدة من فكر الاصطفاء الطبيعي نفسه التي كتبها أبو بكر الناجي في كتابه الشهير إدارة التوحش.
جورج بوش يقول إما معنا أو ضدنا في معركته ضد أشباح الإرهاب، بن لادن يقول العالم مقسوم إلى فسطاطين، وباقي المسوخ من نفس الفصيلتين تردد الثنائية الحادة معي أو الموت لك.
الكساسبة الطيار الأردني الذي انتهى بقفص بالرقة، بسبب حظه العاثر وتكتيكات قوات التحالف الرديئة، سيرتدي الثوب البرتقالي، والبرتقالي بعلم الألوان هو نتيجة مزج الأصفر بما يحتويه من دلالة الأمراض والأحمر القاني الذي يحال إليه لون الدم المسفوح.
لاننسى زميله الياباني النبيل كنجي جوتو الذي قطعت رأسه -كفرق عملة- في المشهد وهو يرتدي البرتقالي.
وأيضاً يجب أن لا ننسى كيف ابتكر أهالي الغوطة نوعاً من التضامن مع الكساسبة ووضعوا فيه أولادهم لتنبيه إلى وحشية هذا الفعل.
القفص السوري
كانت سوريا قفصاً وكل الرعايا يلبسون البرتقالي ولكنهم بسبب عمى الألوان يظنون أنهم يتمتعون بحرية انتقاء ألوان ما يرتدون، كانوا جميعاً يلبسون البرتقالي كما سيتضح لاحقاً.
ونتيجة الرغبة بالإنكار لا أكثر كانوا يظنون أنهم يعيشون في بلد، وبالحقيقة جلهم ممن يقولون بأن الأسد هو صمام أمان يعيشون في أقفاص في مناطق يحكمها إرهاب نظام فاق نذالة بوش وتفاهة البغدادي معاً ولكنه يتمتع بخاصية الخبث لينكر كل ذلك، ويتمتع من يرتدون ملابسه البرتقالية بالنذالة الكافية لتصديقه والتبرير له.
أقفاص الغوطة:
كان لابد من كل ما سبق لفهم ما يحصل في الغوطة حيث يتصدر مشهد وجود بعض السوريين في أقفاص بدون ملابس برتقالية.
بالحقيقة سكان هذه الأقفاص تم إلباسهم البرتقالي بالصفة حين أطلق عليهم مقفصهم، أنهم من الطائفة العلوية.
وكما كل سلطة تحمل سلاح تتحجج بالقصف لتصل إلى القفص، قدمت الرواية التالية: النظام وحليفته روسيا يقصفون الأهالي، وإننا نعتقل هؤلاء البرتقاليون منذ سنوات نطعمهم ونشربهم ونحميهم عل صفقة تحصل ويتم مبادلتهم مع معتقلينا.
المشهد يقدم مادة مهمة للتنظير والحكي والإدانة وأيضا الرياء والكذب.
الموافق عليه، يعلن أنها الوسيلة البائسة التي أوصلنا إليها القصف الهمجي الجبان، فليكن مصير هؤلاء البرتقاليين مثل مصيرنا. من ساواك بنفسه ما ظلمك.
تبدو الفكرة لمن يعرف ما يعانيه أحياء تلك المناطق مبررة على الرغم من أنها مؤذية. ولكنها فورا تصوّر وكأنها الثورة التي تستخدم النساء كدروع بشرعية على سطوح المنازل.
ملحوظة على الهامش. لم توضع الأقفاص على الأسطح وكل من استخدم هذا التوصيف في نفسه شيء من الخبث. وشخصياً أدين وضع أي بريء في قفص سواء على السطح أو في أقبية التعذيب التي تأخذ أعضاءه وتحيله جثة.
وهنا هل سيتوقف القصف؟ بالطبع لا. ولكن للانصاف ربما يؤجله.
في قلب القفص يبدو التكتيك دعائياً أكثر من كونه واقعي. عائلات من الأقليات ومعظمهم من الطائفة البرتقالية لم يفكر النظام بهم ولا بحياتهم ولا يعنون له شيئاً طوال ثلاث سنوات يستخدمون كدروع بشرية. هل قلت دروعا بشرية؟.
بالطبع لن يسكت النظام سيسعى بكل ما لديه والواضح أن لديه الملايين من الدولارت في شركات العلاقات العامة العالمية لتشتري له الرواية المشوشة عن كل شيء.
فبدأنا نسمع، أن قوات المعارضة تأسر نساء من الأقلية العلوية وتضعهم في أقفاص كدروع بشرية.
لا تذكر التقارير المكان الحقيقي وتجعل من هذا الفعل فعلاً بربرياً وهو كذلك حتماً ولكنه ليس أقل بربرية من القصف اليومي للناس المسالمين بينما يستطيع جيش الإسلام المسؤول المباشر عن هذا الفعل أن يخرج دفعة من مقاتليه ويستعرض قوته وكتائبه والألف من قواته الخاصة تحت بصر النظام وسمعه، فتدك طائرته الأسواق وتترك الجيش الموعود الذي سيحرر الأندلس وقائده الذي حرره النظام نفسه من سجونه في آمان سادر.
اليوم جاءني صديق انكليزي وعرض لي صور الأقفاص وهو يقول: هل صحيح أن الثوار يضعون النساء بالأقفاص كأنهم حيوانات ويستخدمونهم دروعا بشرية أمام قوات المعارضة التي تقصف وهي تختبيء خلفهم؟.
بدأت بمحاولة الشرح له حسب رواية آل زهران علوش وأتباعه فقط في إنهم ليسوا على جبهة أو محاور القتال بل في أماكن تواجد ما تبقى من المدنيين، سألني :هل هم طوال اليوم هكذا؟
استفسرت ماذا يعني بهكذا؟
قال: هل هم في الأقفاص بين الأحياء الشعبية كما تقول طوال اليوم لأنه لا يوجد موعد محدد للقصف الروسي الأسدي؟
قلت: على الأغلب نعم.
أجاب: ماذا تفعل النساء إن كن يردن أن يذهبن للحمام؟
قلت: بصدق لا أعرف، لم أفكر بذلك.
قال لي: أخبرهم إنهم يرتكبون فعلاً شنيعاً لا يمكن الدفاع عنه ولا تبريره. سيحول النظام كل هذا لمصلحته وسيبدو المظلومون وكأنهم وحوش وستخرج التقارير الدولية عنهم بارتكابهم انتهاكات دامغة للحقوق الإنسان.
قلت له: ماذا تنصحهم.
قال: أخرجوهم من الأقفاص أولاً.. إن كانوا أولاد بلدكم أنفسهم تعاملهم بهذه الصورة لن تنجحوا في إقناع غيركم بعدالة قضيتكم بل ستكونون دائماً الشبيه السافل للنظام.
لو كنت مكان الثوار، لجعلت كل هؤلاء البرتقاليين يجلسون مع الأهالي في بيوتهم. ويرسلون بعدها ما شاؤوا من رسائل.
انتهى الحديث مع الصديق الأنكليزي ولا أعرف كيف تذكرت فجأة قصة زكريا تامر العبقرية. النمور في اليوم العاشر حين يتحول النمر المروّض الذي بدأ بأكل البرسيم إلى مواطن، وكيف تحول قفص السيرك إلى مدينة.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".