تخلط الثقافة الشعبوية، بين التوصيفات وبين الأحكام. فتقع في التبرير المستمر لعيوب العامة (الشعب)، وترسخ العطالة في المجتمع، أولاً على مستوى الفكر النقدي، الذي يتوقف عليه كل تطور. و ثانياً على مستوى أنماط السلوك، حيث تطرد الوضاعة ماسواها وتسود ثقافة الرعاع، بما تحوي من تحقير للسلوك الرفيع، وتبخيس للحكمة، وإهانة للتواضع. وعنف ذكوري يفتك باللطائف.
وتبرز تلك الحالة بجلاء وتكثيف، في لحظات التحول التاريخي للمجتمعات. كما هو حالنا اليوم، حيث يعلو صخب الاقتتال بين الرجال. وتغور مشاعر الأنوثة في الأبدان، ويعاني صوت العقل من الاضمحلال. فيدخل الناس في حالة من الجنون الجمعي. إذ يستدعي كل غرائز القطيع، الذي ينتمي إليه. فيحتمي به، بعد أن كان يظهر عليه أنه تجاوزه، وقطع معه.
من المفارقات المميزة لحالة الانحطاط هذه، أن نخبة المجتمع لدينا، تقع في نوع من الانتحار الذاتي، وتعميم ثقافة الموت. فبدلاً من أن تقوم بدور كوادر الإسعاف للناس المصابين، خلال الكوارث، و تقدم مبادرات علاج عاجلة، أشبه بمجموعات طوارئ ميدانية، نراها تتواضع على التصفيق للمتعاركين (كل وراء فريقه)، وشحنهم بروح المظلومية، لرفع مستوى العنف المضاد. فتستمد من الماضي أساطير النصر، وتتغنى بأوهام هزيمة الشر، بسلاح الشر نفسه. فتكون الحصيلة صراعا عدمياً، بين مكونات المجتمع الواحد.
في مثل هذه الملحمة السوداء، يزداد الطلب على ثقافة الكراهية، ويرفع من قيم التبعية والقطيعية. ويرتد الزمن بالمجتمع إلى ظلام المأساة العصية على إيجاد مخرج ممكن للبلاد من محنتها، قد يصل بالناس الأبرياء إلى بر الأمان. وتبدو النجاة حلماً بعيد المنال.
أما الفئة العاقلة، من نخبة المجتمع، فتغدو في أسوأ حالاتها. حيث ترمى بتهم الجبن والعنة والانهزامية، من قبل الأطراف كافة. وعادة يكون أخطر مهاجميها من النخبة نفسها، إذ ينعتونها بالتكبر على الناس، أو بعقدة الوضاعة أمام الخصم، إلى حد يسهل عليهم تخوينها، وتوعدها بالقصاص.
فإن هي استعملت مصطلح الجهل والتخلف، لتوصيف المجتمع الغارق في لجج العنف، اتهموها بالاستعلاء عليه، وإن هي طالبته بنبذ العنف والتوقف عن القتال، والعودة إلى السلمية، في المطالبة بالحقوق والحريات، اتهموها بالسكوت عن عنف الطرف الآخر. وإن هي لفتت انتباهه إلى أنه جزء من المجتمع الدولي الكبير، وطالبته بضرورة إعلان هذه الحقيقة، بدلالتها الشارطة، ممثلة بتبني منظومة حقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة وفنون الصراع وشؤون السياسة والحكم، عيروها بالتبعية للغرب، وألبسوها تهمة التبعية للخارج.
هذا الخلط، بين التوصيفات وبين الأحكام، هو أبرز خصائص الثقافة الشعبوية، التي يتاجر مثقفو النخبة السورية بها اليوم. ربما كان هو الصفة اللصيقة بهم، على الدوام. لكن لم تكن لتظهر عليهم، في حالات سكون ماقبل الاضطراب العظيم، الذي مثله الحراك السوري العميق وقد جذب الناس من رقادها، وأطلق ألسنتها.
هل يحتاج السوريون، بعد، إلى من يحرضهم أكثر على مزيد من الاقتتال، والموت العبثي؟ أم أن حاجتهم إلى نخبة فكرية، مسلحة بحب الحياة، هي أحرى وأولى من كل حاجة أخرى؟.
أعتقد أن سنوات خمساً، من التضحيات والخراب، كافيات للتوقف ومراجعة الذات. ولا يكفي البحث عن ذرائع، ترفع المسؤولية عن الذات، وتلقيها على الآخرين. بدءاً من الشركاء في الوطن، وانتهاء بـ"الأعداء" في الخارج (وهم كل العالم!)، لأن هذا لن يزيد السوريين إلا غرقاً في مستنقعات المظلوميات، ويبعد عنهم الحلول.
كما لا يجدي الاستسلام إلى كلام يقول بأن استعصاء الحل السلمي، في سوريا، يعود إلى خروج قرارهم من أيديهم. فليس للقرار إرادة مستقلة، عمن يقرر. نعم السوريون هم من وضعوا قرارهم في أيادي أولياء أمورهم. ومن المنطقي ألا يكون هؤلاء سوريين، أكثر من أهل سوريا أنفسهم.
نعم، أيضاً وأيضاً، نحن جزء من هذا العالم. ولا يمكننا فرض حلول محلية، تتعارض مع الإرادة الدولية. وإذن فلنقدم للعالم حلولا تتناغم مع روح العصر، ممثلة بالحضارة الحديثة. حضارة السلمية والاعتراف بالآخر، على أنه مكون جوهري من مكونات الذات.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".