مع بزوغ نجم الدراما السورية وإنتشارها الواسع عربياً، بدأ تطعيم بعض الأعمال الدرامية بلهجات سورية متنوعة. بداية كان الأمر يقتصر على شخصية معينة داخل العمل تتحدث باللهجة الحمصية أو الحلبية، لكنه اتسع لاحقاً لتُكتب مسلسلات كاملة بلهجات محلية غير دمشقية، كانت سبباً أساسياً في نجاح العمل الكوميدي على وجه الخصوص كضيعة ضايعة والخربة.
وكما في المجتمع كذلك في الدراما، إذ كان لكل لهجة قالباً جاهزاً توضع فيه: فرجل الأمن غالباً لهجته علوية، والشرطي لهجته إدلبية، والتاجر دمشقي أو حلبي، أما الناطق بلهجة المحافظات الشرقية فهو غالباً البسيط والساذج الذي يتعرض لمواقف كوميدية في المدن الكبرى.
وإذا تنبهنا إلى تداخل رأس المال المنتج للدراما السورية مع السلطة السورية، لا بد من التوقف عند تحويل اللهجة العلوية التي يتحدث بها رجال المخابرات في المسلسلات الكوميدية، كبقعة ضوء مثلاً، إلى ما يشبه النكتة، وهو ما يقلل من هيبة سابقة مفترضة لهذه اللهجة. فهل كان الأمر يمر دون انتباه السلطة، أم كان تلطيفاً مقصوداً ليصار إلى تقبّل هذه اللهجة المرتبطة بالنفوذ السلطوي الذي ترمز إليه، مما يخفف الشحنة السلبية والعدائية تجاهه؟.
فانطلاقاً من رغبة كبيرة في اصطناع الهيبة، كان البعض ممن لا ينتمون إلى الطائفة العلوية يتكلمون بلهجة أهلها لما تشيعه من وهم السطوة. وبعد الثورة، تحدث معتقلون عن تجارب مع محققين يتصنعون اللهجة العلوية، قبل أن تعود وتكشفهم كلمة تفلت منهم بلهجتهم الأصلية. وهو تماهٍ مع الصورة المفترضة للشخص الوفي للنظام لدرجة تقمص هويته. أما في الدوائر المدنية للدولة فكان البعض يستخدمها للايحاء بالنفوذ وما يستتبع ذلك من تيسير أمور وتسهيل معاملات.
وكان مستعير هذه اللهجة يتحدث بها حصراً أمام من هم من غير أهلها، فالأمر كان سيبدو مضحكاً لو تحدث بها عسكري، غير منتم للطائفة العلوية، أمام الضابط العلوي المسؤول عنه.
ومع تواتر فصول الثورة السورية، وما آلت إليه الأمور، أصبحت تلك اللهجة تعرّض صاحبها للخطر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ومع توالي حوادث الخطف أو القتل بسبب الشبهة الطائفية، أصبح من الشائع أن يغير السوري المتنقل بين المناطق لهجته حسب طبيعة القوى المهيمنة. فلفظ حرف "القاف"، أو كون هوية الشخص تشير إلى بيئة معينة قد تسهل له المرور على حواجز، وتعرضه للموت على حواجز أخرى.
اليوم، وفي عصر الهجرة السورية الكبرى إلى أوروبا، يركب السوريون "البلم" أو القارب مع أناس لا يعرفونهم، مما يدفع بهم إلى ابداء حرصاً شديداً، لزوم عبور الطريق، فيضطرون إلى التحدث باللهجة البيضاء خوفاً من رد فعل غير محسوب. وكذلك هو الأمر في كامبات اللجوء؛ فوجود أحدهم في غرفة واحدة مع أشخاص كثر، قد يكون بينهم من فقد أهل أو معارف على يد السلطة السورية، أو من مرّ بتجربة اعتقال وتعذيب واذلال في سجونها، قد يضطره أحياناً إلى اخفاء لهجته وهويته خوفاً من العزلة أو المقاطعة، دون أن يُسمح له بشرح موقفه الأخلاقي مما يجري في سوريا.
وهكذا، وفي خضم ما تعيشه هذه السلطة من تغيرات واختلالات في قوتها، كان لا بد أن يطال هذا الاختلال رمزاً أساسياً فيها هو لهجتها، في مقابل صعود لهجة أهالي المحافظات الثائرة في القسم الخارج عن سيطرة النظام لتكون رمزاً لمعادلة قوة جديدة.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".