منذ فترة سنحت لنا الفرصة لزيارة مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين في لبنان. لم أقم بالتقاط أي صور، فصبرا ليست مكاناً يجذب أنظار السائحين، لكن ما يحفزك هو مشاركة بضعاً من هذه الأحاسيس التي تتولد باحتكاك هنا مع الناس. فحقيقة صبرا عبارة عن تجربة جميلة ومحزنة في آن.
في مسيرك داخل المخيم، لا يسعك أن لا تتعثر بالزحام الذي يملأ شوارعه. الدكاكين الصاخية تمتلئ بالبضائع من علب حلوى الأطفال حتى الفاكهة الطازجة. هناك الناس يصرخون، يتحادثون، يشربون الشاي، يدخنون الأرجيلة، يلعبون، يتخاصمون على شيء ما ويغنون ويستغربون حين يقع بصرهم على غريب ما يسير بينهم. ما تزال رائحة القذارة المنبعثة عن أزمة النفايات اللبنانية تتغلغل في الأنوف. فالرائحة عادة ما تكون أسوأ في الأحياء الفقيرة حيث تقوم الطبقات الاقتصادية الأغنى بإلقاء قذارتها على منهم أدنى منها، إلى أن تصل فيه حدّاً تتجاوز القدرة على الاحتمال. فقط، منذ قليل من الوقت، أخذت رائحة هذه الأزمة تسري بين سكان الطبقة المتوسطة والغنية حين لم يعد هناك من مكان تتسع له أحياء الفقراء واللاجئين كمخيم صبرا.
عند دخولك المخيم، يلفت نظرك تواجد الجيش اللبناني. إنهم ليسوا هنا لحماية المخيم كما قد تعتقد للوهلة الأولى، بل يعملون على منع السوريين والفلسطينيين من المغادرة. تسيطر على المخيم مجموعات مختلفة بدءاً من حماس وحركة أمل وصولاً إلى حركة فتح. حقيقة هناك نزاعٌ شديد مع حزب الله حول من سيتولى مهمة "الحماية" المزعومة هذه، والتي عادة ما تكون على حساب الجماعات العلمانية الأخرى بسبب الامتيازات التي تتأتى مع استحواذ السلطة. ولا تذكرنا إلا بما يماثلها الآن في سوريا من خطورة مصاحبة للأسد وداعش على حد سواء. فالكل يدعي حقه في تولي زمام الأمور منطلقاً من قدرته على توفير "الحماية". لكن السؤال هل إن هذه التسلطية والعنف الهائل الذي يفرضونه يوفر مثل هكذا حماية؟ في النهاية، فإن الرعب لا يستجلب سوى الدمار على المدنيين السوريين والفلسطينيين هنا سواء كان في أيدٍ إسلامية أم علمانية.
عندما تدخل في شوارع صبرا عميقاً، فإنها تغدو مكتظة أكثر وأكثر وتستحيل الطرقات إلى أوحال وخاصة مع اقتراب الشتاء. فكل شتاء تهب عواصف عدة تاركة المخيم يعيش كارثة لا تحتمل. وطواقم الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يتمتعون بسمعة سيئة حيال هذا الأمر، فهم لا يلبثون يحزمون أمتعتهم ويغادرون المخيم في كثير من الأحيان عندما يعصف البرد والأمطار باللاجئين هنا. في حين يكافح الناشطون المحليون لتوفير الطعام والماء والثياب والأغطية إلا أنهم غالباً ما يصطدمون بحقيقة رفض الشعب اللبناني عموما للمساعدة أو التبرع إلى أن تطفو الأزمة وتمتد لتصل إلى بيوتهم فهنا يسارعون لإيجاد حلولٍ عفوية دون أي تخطيط مسبق. وهذا من دون شك يرتبط وثيقاً بالنوايا السياسية التي تجعل من اللاجئين السوريين والفلسطينين كبش فداءٍ لكثير من المشاكل التي تواجه لبنان.
ليس هناك أيّة بنى تحتية في المخيم . وهذا ما يدفع الناس إلى القيام بكل نشاطاتهم الحياتية وفقاً للقليل المتوافر بين أيديهم هنا. فعلى سبيل المثال، تغص الشوارع والحارات بآلاف الأسلاك التي تنزلق فوق بعضها البعض كشبكة عنكبوتية لإيصال خطوط الكهرباء إلى البيوت. هذه الشبكات المتكدسة من الأسلاك بين الأبنية هنا، لا تربط الكهرباء فقط، إنها يمثابة الشبكة التي تجعل من روح المكان شيئا خلاباً يكثف من العلاقات الاجتماعية ويربط المعاناة بين اللاجئين السوريين والفلسطينيين، في تشاكل المأساة.
وعلى الرغم من الكثافة السكانية الكبيرة في صبرا، إلاً أنّه ليس من المسموح إقامة أبينة سوى بارتفاع محدد. لذا فكل البيوت هنا تبدأ من طابق واحدٍ أو طابقين ومن ثم تتكوم فوقها عشوائيات الطوب والأسمنت أو الصفيح حتى.. ولحسن الحظ، فإن العديد من الفلسطينيين والسوريين ماهرون جداً فيما يتعلق بشؤون الكهرباء والبناء لكن عدم توافر المواد اللازمة تحدّ من توسعهم وكأن ذلك يمثابة عقابٍ جماعي لقرارهم بمغاردة أراضيهم التي دخلها الاحتلال الاسرائيلي وحرب نظام الأسد.
يمازحك الناس هناك ويتبادلون معك الأحاديث القصيرة في الطريق. وغالباً ما تراهم يحتجون على قضايا التهجير و سوء المعاملة. وعلى الرغم من وجود العديد من الناشطين الفلسطينيين ومؤخراً السوريين والذين يكافحون في بيئات معيشية صعبة وظروف أمنية قاسية للدفاع عن قضايا أساسية للاجئين، فإن الغالبية العظمى من سكان المخيم ليسوا إلاّ مدنيين عاديين يكافحون لكسب لقمة العيش و نيل جزءاً من الكرامة في ظروف حياتية صعبة. يعود عمر هذا المخيم إلى ما لا يقل عن 60 سنة، وبوجود النكران العام لحق الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم فإنهم هنا ما يزالون يعاملون من الناحية القانونية كلاجئيين على الرغم من أن أعدادهم تزداد جيلاً بعد جيل. هذا التشويش حول مفهوم الهوية يعود الآن ليواجهه عشرات آلاف السوريين الوافدين حديثاً إلى المخيم.
ما يلفت النظر و الانتباه ها هنا، أنّه وبسبب تعقيد ديناميكية الوضع السياسي اللبناني، فإن العديد من الفلسطينيين المسيحيين، ولكن ليس كلّهم، لهم القدرة على الحصول على حق الإقامة في لبنان بدلاً من إجبارهم على دخول المخيم. على الرغم من هذا فإن أغلبية السوريين هنا لا مكان لهم سوى البقاء في المخيم أو المخيمات الآخرى في شمال وجنوب لبنان، دون أي حق في الإقامة.
على الرغم من كل هذه المأساة، فإن حياة جميلةً لا تزال ممكنة في صبرا. هنا تجد الكثير من المكتبات التي تديرها منظمات المجتمع المدني و الكثير من شبكات الدعم المدارة من قبل ناشطين محليين. حتى غدا مخيم صبرا مركزاً للعديد من حركات فعالة وتقدمية في لبنان. الناس هنا مضيافون جداً، فما أن يروا غريباً يستكشف المكان حتى يتراكض الأطفال السوريون والفلسطينيون حوله يلقون عليه التحية باللغة الإنكليزية، ومن ثم يسرعون هرباً إن أجابهم بالعربية، والضحك يملأ صدورهم.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".