ثقافة الموت وثقافة الحياة

ثقافة الموت وثقافة الحياة
القصص | 11 أكتوبر 2015

يبدو الحديث عن الثقافات عموماً في هذا الزمن الرديء لوناً من الترف لشعب يعاني من مآسي الحرب السورية المتفاقمة كل يوم، والتي تجبر نصف الشعب السوري أن يعيش بين ركام الموتى، في أسوأ كارثة إنسانية في القرن الجديد.

ولكن رسالة القلم تقتضي أن نكتب ما يساعد الناس على فهم أفضل للعالم، وقراءة للجانب الملآن من كأس الحياة، يترعها بأمل حتى يتمكن أن يشرق ويورق ويبرعم ويزهر ويثمر في مستقبل الأيام.

لقد ابتليت هذه الأمة بخطاب سياسي كهنوتي مزدوج يجعل الموت في سبيل الأديان أو في سبيل الأوطان هو أرفع الأماني التي يجب أن يسعى إليها المؤمن الصالح أو المواطن المقاوم، فالسياسي يقول إن باب الحرية الحمراء مضرج بالدم، والآخر يقول إن الجنة تحت ظلال السيوف.

وهكذا يتم تدريس ثقاقة الموت على يد المستبد والكاهن في الوقت نفسه، فالأول يتاجر بالأوطان والثاني يتاجر بالأديان، تماماً كما قال إقبال:

فإلى متى صمتي وحولي أمة    يلهو بها السلطان والدرويش

هذا بسبحته وذاك بسيفه         وكلاهما مما نكد يعيش

وسأتجاوز هنا خطاب الاستبداد الذي برع في دفع الناس إلى حتوفهم ثم تكليلهم بغار الشهادة، وإقامة مهرجانات الرثاء والبطولة على مصارعهم فيما هو يرتع في قصوره وبهارجه وملذاته دون وخزة ضمير.

وسأتوقف عند الخطاب الديني الذي يزخرف الحرب ويدعو للموت في سبيل الله، ويلعن الدنيا وحكامها، وزخارفها وبهارجها، ويسعى لمجد الموت، لا يبالي على أي جنب كانت المصارع.

فهل الإسلام بالفعل ثقافة موت، وهل نقول الحقيقة عندما نتحدث عن الأبطال الفاتكين الواثبين على أثباج الخيول، يرقصون في موارد الردى، فيقتلون ويقتلون، وتتكسر السيوف في أيديهم لكثرة ما تضرب بها الأعناق، ثم يمضون إلى الموت غير آبهين بهذه الحياة، فيضربون بمصارعهم أصدق الأمثال على الفداء واليقين؟.

وهل الدنيا بالفعل مركب ملعون، ومتاع غرور، وفتنة وبلاء، ورجس ودنس، يلعن محبوها ويثاب كارهوها.

قناعتي أن الرسول الكريم لم يكن رجل موت، لقد كان رجل حياة، وفي تاريخ رسالته أمضى الرسول الكريم نحو أربعة عشر عاماً من عمر رسالته الممتدة ثلاثة وعشرين عاماً بدون دماء ولا حروب، ومع أن المشركين قاموا بأشد الأعمال فظاعة في قتل أصحابه المستضعفين بوجه خاص، وقتل أبو جهل بيديه ياسر بن مالك وسمية بنت خياط، وارتكبوا الفظائع في خباب وبلال وزنيرة وغيرهم من المستضعفين.

كانت لديه كل المبررات لينتج ثقافة الموت ويرسل الانتحاريين الشجعان إلى مصارع أعدائه، ويجعلهم للناس نكالاً.

ولكن الرسول الكريم لم يشأ أبداً أن يذهب إلى السلاح ولم يرضَ أبداً لأي من أصحابه أن يبدأ بالحرب أو القتال، واستمر في محرابه الأبيض لا يزيد أن يقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.

إنني لا أزعم أنه كان غاندي الهوى والمزاج، لقد كان أيضاً رجل جهاد وكفاح، رجل ملحمة ومرحمة، ولكنه لم يأذن أبداً بحمل أي قطعة سلاح إلا بعد ان صار دولة وجيشاً وطنياً يتحمل مسؤولياته في مواجهة عدوه.

ومن خلال غزواته التي ندرسها وعددها سبع وعشرون غزوة فإن الأيام التي وقع فيها التحام حقيقي بينه وبين خصومه كانت فقط ستة أيام وهي تحديداً بدر وأحد والمصطلق وخيبر وحنين وبني قريظة، وقد تمكن من تجنب الحرب في الغزوات كلها، وكان حريصاً على حقن الدماء ما استطاع.

ولا أشك أبداً أن هذه الأيام الستة فرضت فرضاً على الرسول الكريم، وأنه لو استطاع لخندق حول أصحابه كما فعل يوم الخندق ليمنع أي اشتباك، ويحول دون إراقة الدماء.

كان شعاره قتال الكفر وليس قتال الكافرين، ولم يقتل المنافقين ولكنه قتل النفاق، وكان حريصاً أن لا يراق دم إنسان، وفي موقف فريد وذي دلالة مثيرة فإن الرسول الكريم في يوم بدر كان يرفع يديه بالضراعة قائلاً: "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض!".

لقد جاء يحمل قرآنه بيديه، وفي الكتاب نص يقرؤه كل يوم: من قتل نفساً بغير نفس، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

ليست هذه الكلمات لإنكار حق الشهيد والشهادة، ولكنها لبيان أن الشهادة قدر مر، واضطرار مقيت، وكتب عليكم القتال وهو كره لكم، قد يفرض على الشريف المدافع عن أرضه وعرضه، فهو عند الله بمكان، ولكن الموت ليس هدفاً يسعى إليه المجاهد ليتبوأ مكانه في الحور العين وانهار العسل والخمر واللبن والفضة.

وبعيداً عن الحرب فقد قام الرسول الكريم ببناء الحياة، وحقق في أرض المدينة أكبر واحة خضراء في جزيرة العرب، وحقق في قلب الصحراء تنوير المدينة بالسرج حتى صارت كأنها قطعة قمر، وخط بيده أحكام المساقاة والمهايأة والمزارعة والمصانعة، وأثنى على الزراع والتجار والصناع، وقال لهم بوضوح إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها.

أما تلك الخطب النارية التي تلهب الشباب وتدفعهم إلى احتقار الدنيا وركوب مراكب الموت ابتغاء رغائب الآخرة، فليست في رأيي سلوكاً مستقيماً، ولم تكن في قناعتي روح الرسالة النبوية.

حين يكون شعار الحركات الإسلامية منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى اليوم  كما أطلقه حسن البنا: الجهاد سبيلنا.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فهذا يعني أننا ما زلنا نمارس ثقافة الموت، ولا زالت مشاريعنا في السماء، وليست الدنيا إلا قنظرة ملعونة ملعون ما فيها.

وحين يدعو الاستبداد إلى ثقافة الحرب، ويذهب في تمجيد القتال إلى حد عبادة بسطار المقاتل ورفع التحية لهذا البسطار فهذا يعني أننا ما زلنا ندرس ثقافة الموت.

لقد حان الوقت لنملك الشجاعة ونعترف بوضوح أننا أفرطنا في تدريس ثقافة الموت والشهادة، ومن العقل أن نقول إنها ثقافة يأس وقنوط، وأن رسالة المؤمن الحق هي ثقافة الحياة والإحسان إليها والعمل فيها بإحسان.

وليس الموت في سبيل الله أولى من العيش في سبيل الله.

ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق