"أصبح تناول حبة فاكهة بأكملها، تجربة خيالية، تشبه محاولة اعتلاء أول رجل بشري سطح القمر"، يقول أبو محمود، أحد باعة الفاكهة المتواجدين في مدينة دوما بريف دمشق.
يفترش الرجل الأرض بغطاء أحمر صغير، يمثل بسطة حقيقية، وضع عليها مسطرة دقيقة، وسكيناً حادة سنت أطرافها بعناية، بالإضافة إلى خمسة أصابع موز كاملة، مقطعة بالسنتيمتر، كل جزء بطول 2 سم.
"أنا لا أقوم بهذا العمل لمجرد الربح فقط، لا أربح الكثير أبداً"، يوضح أبو محمود، مضيفاً: "الناس لا تستطيع شراء الموز لأن حبة الموز الواحدة سعرها 400 ليرة سورية، وقد يصل حتى 500 ليرة أحياناً، لذلك أشتري بضع حبات موز وأقوم بتقسيمها إلى قطع صغيرة حسب الطلب، ليستطيع جميع الناس تناول ولو قطعة صغيرة على الأقل".
الموز لكل الناس!
بعد أن انتهى أحمد ذو الحادية والعشرين عاماً، من عمله في السوق التجاري وسط مدينة دوما، توجه مسرعاً إلى منزله، يخطو الخطوة تلو الأخرى، بعينين فرحتين، يتلمس جيبه لا إرادياً، كل حين، ليشعر بنشوة عظيمة، فقد اشترى لتوه موزة كاملة من بسطة أبو محمود، دفع ثمنها 450 ل.س.
يقول أحمد: "على مشارف المنزل، وقبل وصولي بقليل، استوقفني جاري برفقة ولده الصغير، كانا يرتديان ثياباً مرقعة، علماً بأن الأب كان يعتبر من الطبقة الثرية قبل بداية الحرب في سوريا، ألقيت التحية عليهما، وتلمست جيبي بحذر وتردد، إلى أن أخرجت الموزة".
قسم أحمد الموزة إلى نصفين، وضع نصفاً في جيبه، بينما أعطى الآخر للصبي ابن جاره، الذي أمسك بحبة الموز ناظراً إليها باستغراب، لأكثر من خمس دقائق، "لم يعرف الطفل ماذا يمسك بيده!"، يقول أحمد وهو يبتسم بحرقة، مكملاً: "أعتقد بأنها لعبة، فهو لم ير موزة من قبل أبداً".
حصار وتجار حرب
"عندما فتح طريق مخيم الوافدين ـ دوما هب الناس جميعاً ليشتروا ما يستطيعون شراءه من الحاجيات وبعض المواد الغذائية بأسعار معتدلة نوعاً ما، إذا ما قورنت بأسعار السوق داخل دوما"، يؤكد عبد الله، أحد المسعفين المتطوعين، بالمدينة الأكبر، في ريف دمشق الغربي.
ويكمل المسعف عن الأحداث التي جرت منذ فترة: "الطريق سرعان ما أغلق في اليوم الثاني تماماً، لتعود الأسعار ليس كما كانت قبل فتح الطريق بيوم واحد، بل لتصبح أكثر غلاءً من قبل".
هكذا، يبدو وضع المدينة، ممنوع عنها الماء والطعام والدواء والكهرباء والغاز والمازوت، بسبب الحصار، لتغدو ضاحية نائية بامتياز، ولتصل فيها أسعار المواد الغذائية، حد الخيال.
يوضح عبد الله أن المشكلة أصبحت أسوأ فأسوأ مع مرور الوقت، مفسراً: "لأن بعض تجار الحرب الذين ازدادوا ثراء على حساب الثورة وشهدائها، كانوا يدخلون مواد غذائية عبر نفق برزة ـ حرستا، ثم يقومون بتخزينها وبيعها فيما بعد بعشرة أضعاف الثمن على أقل تقدير، فعلى سبيل المثال يأتون ب تنكة السمنة ب 4000 آلاف ليرة لتباع هنا في مدينة دوما ب 56000 ليرة سورية".
ويشير عبد الله أيضاً إلى أن المعونات المقدمة أحياناً من الهلال الأحمر، والموافق عليها من قبل النظام لدخول دوما، يتم بيعها مباشرة وبأسعار باهظة لمن استطاع من الأهالي، فلا يوجد لديهم خيارات أو مصادر أخرى، تغنيهم عن الموت جوعاً، حسب تعبيره.
من المسؤول؟
يبدو الخوف، هو ما دفع بعض أهالي دوما التي يسيطر عليها "جيش الإسلام"، إلى تجنب الحديث عن هوية أولئك المستفيدين وتجار الحرب، بالوقت الذي فضل فيه البعض الآخر، التزام الحيادية التامة حيال الموضوع.
عندما توجهنا بسؤالنا للمسعف عبد الله، احمر وجهه قائلاً بانفعال: "جميع الأهالي يعلمون من هو المسؤول عن هذا الشيء، لكن لا أحد يستطيع البوح علانية".
ويضيف: "الحصار أنهك الناس جميعاً، وبدلاً من استغلال نفق حرستا - برزة وطريق مخيم الوافدين للتخفيف من معاناتهم، حدث العكس تماماً، فقد أصبح النفق وسيلة قذرة للحصول على أموال طائلة من قبل البعض من تجار الحرب"، وطبعاً، النفق يصل حرستا شرق العاصمة دمشق، ببرزة، في الشمال الشرقي للمدينة.
الجدير بالذكر وحسب بعض ناشطي مدينة دوما، فإن ضحايا الحصار المفروض على الغوطة الشرقية من قوات النظام، ووسط نقص الغذاء والدواء، وصل حتى أكثر من 44 ضحية منذ بداية العام الحالي، لتتواصل معاناة الأهالي بسبب الحصار وتجار الحرب، ناهيك عن المجازر التي يرتكبها طيران النظام السوري، وآخرها مجزرة السوق منتصف شهر آب الماضي.