أبيض أسود .. الرمادي الذي لا يحب أحداً

أبيض أسود .. الرمادي الذي لا يحب أحداً
القصص | 08 أكتوبر 2015

يغضب الرمادي لأنه يشعر بالعزلة. يعتقد أنه أكثر أصالة من الأبيض أو الأسود، وغير ذلك من الألوان. ومع ذلك فإنهم يمنعونه من التمثيل، ليس له الحق في أن يُرى. 

لا يرتديه الرؤساء في العادة، أي أنه لا يصلح للمراسم، ولا يحبه اليساريون، فهو موجود في الوسط، أي في النقطة الميتة، بعيدا عن الاختلاف والتباين، ولا يرغب فيه اليمينيون إذ يوحي بالضحالة والفتور ومن الصعب أن يرشح منه ماء حياة.

لون المكر رمادي، ذلك أنه يلتهم اللون المقابل له، يبتلعه، ويعيد تشكيل ذاته وفق إحداثياته. يطمس ملامحه وينسل إلى المنظور . يحاكي الكلام المقول، ويعلن بهزات من رأسه انتماءه الأكيد إلى اقتباسات المتكلم. أي متكلم؟  نعم أي متكلم، فلا جَلَدَ لدى الرمادي للخوض في قضية خلق الأفكار، أو قيادة الإرادات. ولهذا يزعم أنه يقدس التناغم والانسجام،  وهو ما يمكنه من مديح الحضور القوي لأي فكرة أو أي رأي.  

يمكن للرمادي أن يحدثك عما فعله هو شخصيا في الدفاع عن الحقوق، يحب الرمادي ذاته، يدعي أنه روض كلاب الحراسة المعتمدين من قبل النظام، قبل أن "ينط" أي صبي من صبيان "الثورة" ليقول حرية أو بطيخ. يروي أنه حين كان مشرفا على مزارع الدولة، رفض أن يرسل للمحافظ أي سلة منتقاة من فواكه بستانه، وقال للممثل الذي جاء يطلب حصة المسؤول الكبير: "قل له أين الثمن؟"

من يجرؤ على هذا؟ لا أجيب عن هذا السؤال، أعرف أنه لا يريد الجواب، ولا يريد أن أوافق أو لا أوافق، فالحكاية التي يرويها هي الموضوع لديه، إنها قصته البطولية، قوله "لا"، في الوقت الذي كان فيه الجميع، الجميع بلا استثناء، يقولون نعم. يشدد على التركيب: "بلا استثناء" في وجهي، أعرف أنه يريد أن يدون اتهامه للآخرين بالتخاذل على هامش متن حكايته. كل من كان بلا بطولات في الزمن الماضي، لا يستحق الحرية الآن، أو في المستقبل. هذه هي الأسانيد "المنطقية" التي يستلها من أسلوب حياته الذي اتسم "بمعاندة المسؤولين": دعني من موضوع السلطة، يقول، لا تعنيني السياسة أبدا، المهم هو الأخلاق.

الحبكة ركيكة ومبتذلة، بسبب التكرار. هذه هي سقوف أحلام اليقظة لدى الموظف الرمادي الذي يريد أن يعلن عن "ثوريته" أو "استقامته" وهي مفردة ملائمة له: مواجهة تعتلي الوهم وتستعير البطولة.   

أفكر أنه كذاب أيضا، لا تسمح السلطة لموظفيها الصغار بالعطس في وجه الجنرالات، فما بالك  بمنع المحافظ من اشتهاء البندورة ؟ فالموظف الصغير من رتبة مشرف يستطيع أن يفتش جيوب العمال أثناء الانصراف، أو يسجل أوقات غيابهم فقط. هذه هي الوظيفة التي تناط بالمنفذين في ملكيات الدولة التي أعلنوا أنها ملك الشعب. "اشتراكية" غنائية تمتدح انتظام الصفوف، وتشابه الوجوه، وأحادية اللغة. 

وبسبب العزلة ذاتها يهتف الرمادي بالصوت العالي: ماذا يعرف الفلاحون في هذا البلد عن الديمقراطية؟  أظن أنه يشير إلى غلبة أبناء الريف على الحشود السورية في الشوارع.

ثمة سؤال شبيه  يتعلق بالكتابة الروائية، وهو سؤال يوجه إلى المئات من الروائيين في العالم: كيف يمكن لفلاح أن يتحدث عن القضايا الكبرى؟ المقصود بالسؤال هو: لا يمكن لفلاح أو عامل أن يتحدث عن قضية كبيرة.  يعتقدون أن الفلاح يعجز عن الصعود إلى سلم الأمنيات العظيمة. ثمة من أوحى أن وعي الفلاح لا يزيد عن حجم حبة كوسا. كيف يمكن أن يتجاوز حوافر ثوره إذن؟ كيف يمكن أن يتحدث عن قيمة كبرى كالحرية؟ 

دافيد كوت يجيب عن هذا في كتابه "الأدب الأفريقي": ليست القضية أن نتخيل هذا القول الفردي، أو كتابة هذه الكلمات، بل إذا كانت هذه الكلمات تعبر بقناعة عما يمكن أن نقبل به كطريقة لوجودهم وتفكيرهم وتفاعلهم مع بيئتهم" .  

يحتمل إذن أن يعرفوها بالحدس، باللمس، بالاشتياق، بالحاجة إلى التنفس كما لو كانت هواء من ضروريات الحياة، لا نظاما من  الفلسفة السياسية، ولا بنودا تسجل في القوانين. وهم على أي حال كانوا يتكلمون عن الكرامة، عن الحرية والكرامة. ثم إننا لن نحرم البشر من الماء لأنهم لا يعرفون السباحة، أو نمنعهم من التنفس لأنهم يجهلون تركيب الهواء.

غير أن الرمادي لا يعترف بالتنوع اللوني. لا أعرف فيما إذا كان الإنكار ناجم عن الحقد، أم عن الجهل، أم عن العمى اللوني. إذ لا يرى، أو يرى أن الهتافات من حقه وحده، أو أن الحشود "الحقيرة" لطشت ما كان يريد أن يقوله من فمه. لا يقول هذا تماما، ولكنه يستطيع أن يسخر من أي حشد كبير يخرج إلى الشوارع ليطلب أي شيء.

يقول الرمادي: فليذهبوا إلى جهنم يا أخي! أو يقول: لا يمكن لهؤلاء أن يصنعوا ثورة. ولهذا لست معهم. ولكي يستأنس بالذرائع، يلجأ إلى التاريخ. ثانية؟! يعجب من غياب القادة: أين روبيسبيرهم هنا؟ أين دانتون؟ بونابرت الخاص بهم يا أخي؟ أين لينين؟ تروتسكي حتى؟ هات لي أي اسم يمكن أن يكون قائدا لهؤلاء. هل تظن أننا لا نخلق القادة؟ غلطان. والحقيقة أن هؤلاء  لا يمكن أن يخلقوا أي قائد.

لا عجب بعد هذا أن يدعي الرمادي أنه سليل الألوان، إذ يمكن أخذه من خلط الأحمر والأزرق والأخضر، أو خلط الأبيض والأسود. ولهذا تراه يختبئ خلف الألوان جميعا.

*مقالات الرأي تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبر عن رأي "روزنة".

*تم نشر هذا المقال بموجب اتفاق الشراكة بين "روزنة" و"هنا صوتك".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق