باقية وتتمدد.. مراجعات لثقافة الجهاد

باقية وتتمدد.. مراجعات لثقافة الجهاد
القصص | 01 أكتوبر 2015

مع أن ثقافة (باقية وتتمدد) التي تقوم عليها مبادئ داعش لا تروق لجمهور المسلمين، ولا يستخدم صيغتها هذه إلا أتباع التنظيم، ولكن يجب القول إنها في العمق هي الطريقة التي درسناها على مقاعد الدرس، حيث نروي الأيام العظيمة القديمة يوم كان الفاتح الغازي ينطلق إلى السند شرقاً والأندلس غرباً بخيله وسيفه، ليهدم دول الكفر ويرفع راية التوحيد، حيث كنا نعرض على الأمم المغلوبة واحدة من ثلاث الإسلام أو الجزية أو السيف، وهي ثلاثية تخص أهل الكتاب وحدهم، أما الآخرون فلا يجدون وفق الفقه القديم، الحنبلي خاصة إلا خيارين اثنين: الإسلام أو السيف.

أما الأديان فهي تدرس للجيل الجديد في باب الشركيات والردة والزندقة، ولا تدرس كحكمة ونور، ولا وجود لدين آخر إلا للإسلام، خاصة إذا كانت تلك الديانات الشرقية التي لم تذكر في القرآن الكريم، فهي مجرد وثنيات وعبادة بقر، جاء الإسلام ليطهر الأرض منها وليس أمام أتباعها إلا الإسلام أو السيف وهذا بالضبط هو نص كلام الشافعية والحنابلة في معظم مصادرها.

ولتأكيد هذه الحقيقة أسس الفقهاء قسمة ثنائية للجهاد، جهاد الدفع وجهاد الطلب، وكما يدل ظاهر العبارة فجهاد الدفع لحماية الدولة والناس من الاعتداء الخارجي، أما جهاد الطلب فهو قتال الناس لإدخالهم في الدين الحق، ويتم تبرير هذا اللون من القتال أخلاقياً بأنه لا يهدف إلى إكراه الناس على الإسلام وإنما يهدف لإزاحة الطواغيت لتمكين الناس من اختيار الدين الذي يريدون.

وليس لدي أدنى شك في أن جهاد الدفع هو الجهاد الذي أمر به القرآن الكريم (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وهو جهاد تحترمه الدولة الحديثة، وتمارسه كل دول العالم، وهو جوهر الأمن الوطني لكل دول العالم.

أما جهاد الطلب فلا أعتقد ابداً أنه وارد في جوهر الدين، بل هو مما ألقته السياسة والحرب في عصر تمجيد القوة، وحق المتغلب، ونحن نتكلف للتاريخ كثيراً من العسف لتبرير ما جرى تحت عنوان جهاد الطلب، وفي الواقع فقد كان هذا هو شكل العالم، ولم يكن المسلمون استثناء من قاعدة حق المتغلب، ومع ذلك فقد كانت القيم الإسلامية تساعد في التقليل من شرور الحرب، وهو ما دفع مستشرقاً نبيلاً مثل غوستاف لوبون ليطلق عبارته الشهيرة: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب، وكنت دوماً أختم الجدل في هذه المسائل بعبارة: تبرر ولا تكرر.

ولكن السؤال اليوم إذا كان يمكن تبرير جهاد الطلب في الماضي بأنه لمواجهة الحكام الذين يمنعون شعوبهم من اعتناق الإسلام أو يمنعون الدعاة من نشر الدعوة أفلا يتطلب هذا مراجعة عميقة لجهاد الطلب، فالحكومات العالمية اليوم بلا استثنناء تفتح أبوابها لأي ثقافة وافدة، وذلك وفق قوانين حقوق الإنسان، التي تنص صراحة على حق الإنسان في اختيار دينه ومعتقده، وقد صار هذا الحق جزءا من دساتير دول العالم كلها، ولا يوجد دستور حديث إلا وفي صدره مضمون العبارة القرىنية: لا إكراه في الدين، وقد أصبحت حقيقة قانونية تحميها القوانين والسياسات والضمائر.

ولا نحتاج لتوكيد هذه الحقيقة أكثر من الإشارة لما ينشر يومياً عن بناء المساجد والمدارس الإسلامية في كل مكان في العالم، وفي هذا الشهر كما في كل شهر نرصد خبرين اثنين الأول بناء أكبر مسجد في روسيا وافتتاحه في صلاة العيد عبر عشرات الآلاف من المسلمين وبمشاركة حكومية كاملة، وهو مركز للعلم والدعوة والعبادة وفق أرقى الشروط التي يحتاجها المصلي والمتعبد، والثانية قيام بلدية باريس بإهداء بناء ضخم للمسلمين في فرنسا دون مقابل لممارسة العبادة والعلم والدعوة على الوجه الذي يرغبه المسلمون دون أي شروط أو إملاءات.

السؤال الآن برسم زملائنا في التعليم الديني، أما آن لنا أن نقول بوضوح أن جهاد الطلب على افتراض أنه مبرر في الماضي ليس له في الحاضر أي تبرير، وأن الدعوة إلى الله لا تحتاج لجيوش جرارة ولا لغزاة فاتحين، ولا لطيارين انتحاريين يضربون أبراح مانهاتن وأنفاق لندن وقطارات مدريد، بل تحتاج إلى خيرات إسلامية علمية وإعلامية واجتماعية متوازنة ومتصالحة مع الحضارة الإنسانية، تستفيد من الأفق المتاح وتحمل في خطابها احترام العالم وتقديم ما يضيفه الإسلام للعالم من حكمة ونور.

وبدلاً من الخطاب الاستعلائي الذي لا يرى في الأديان إلا ركاماً من الوثنيات فإن واجبنا هو دراسة أديان العالم وثقافاته باحترام على أنها كما قال القرآن الكريم حكمة ونور، وليس رجساً ووثنية، (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور)  (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك).

إنني أطالب بالعودة إلى هدى القرآن الكريم في هذه النصوص الهادية الواضحة، فهي جوهر الرسالة الإسلامية، وهو فهم لا يمكن أبداً مقارنته بمنطق: باقية وتتمدد بالحرب.

*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق