الحرب السوداء ولعنة الطائفية

الحرب السوداء ولعنة الطائفية
القصص | 24 سبتمبر 2015

على الرغم من أن التدخل الروسي، قد طغى على المشهد السوري في الأسابيع الأخيرة، وفرض واقعاً جديداً في الصراع، لا يتصل بالمعادلة الطائفية، ولكن من المبكر التكهن بأن الحرب الطائفية إلى انحسار، خاصة بعد التفاوض المتكرر بين أحرار الشام والإيرانيين بشأن الفوعة وكفريا والزبداني، والتزامات التهدئة المؤسسة بالكامل على وقف المجازر الطائفية.

تبدو المسألة الطائفية أكثر الكوارث التي أفرزها بطش النظام وطيش المعارضة في سوريا، ويسود اليوم خطاب إقصائي إلغائي لا مكان فيه لأي لغة تسامح أو تعايش، بعد أن دفع الخطاب الطائفي بحملة السلاح إلى الغاية، وألقى بالزيت على النار في المحرقة المشتعلة.

حتى الخطاب الرسمي للمعارضة والنظام، أصبح استئصالياً بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن كان لا يزال يتجنب التوصيف اللفظي الطائفي، ولكنه حاضر في روح كل تصريح، حيث ينص النظام على القتال حتى مقتل آخر إرهابي، وتصر المعارضة على القتال حتى مقتل آخر شبيح، ويتم يومياً الدعس اللئيم على ضحايا الفريقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الفور ترتسم اللوحة الطائفية البغيضة في الأذهان للإرهابي والشبيح، ويقفز لتأييد النظام فصائل مسلحة وافدة من الخارج كلها دون استثناء من الشيعة، ويصل لتأييد المعارضة فصائل مسلحة مقاتلة من الخارج كلها دون استثناء من السنة، وتعبر عن الكارثة مباشرة بالصوت والصورة عشرات المقاطع المسربة من الفيديو للفريقين المتحاربين، ومن السذاجة أن نصدق أن الرغبة الدموية الهائجة في الاستئصال الطائفي هي شأن فريق دون آخر، بل يجب القول إن لدى الجميع رغبات متشابهة في التصفية الطائفية والثأر والانتقام.

ورغم أنني لا أومن بالحرب كلها، وأعتقد أن لا شرف لبندقية ولا مجد لحرب، والقتال بكل فنونه لون من الوحشية وشرعة الغاب، فإن ذلك لا يعني أن المتحاربين بلا قضية، أو أنهم لا يملكون أسباباً تقنعهم للدخول في حمأة الموت البغيضة.

في بلاد العراق وسوريا ولبنان، يعيش قرابة 60 مليون إنسان، يزيد عدد الشيعة فيهم عن 40% وإذا استثنينا الكرد الذين لهم هم قومي وليس مذهبياً، فالشيعة هنا نحو نصف الناس، هذا إذا لم نتحدث عن الامتداد جنوب العراق صوب الكويت والإحساء والبحرين، والامتداد العلوي في تركيا العلمانية بواقع يزيد عن عشرة ملايين تركي، وهذا يعني أن الصراع المذهبي سيكون صراعاً ماحقاً، وأنه لا أمل في انتصار أحد فيه.

ومع أن التركيبة الطائفية في سوريا ليست بهذه الصورة، ويرى البعض أن قياس العراقي على السوري واللبناني غير مستقيم، ولكن الأحداث أثبتت خلاف ذلك، فقد كسر اللبنانيون من حزب الله، والمقاتلون من العراق حاجز الحدود، واقتحموا سوريا بكتائبهم المقاتلة، وأثبتوا أنهم – حين يريدون - أشد من البعثيين رفضاً لسايكس بيكو، وما نتج عنها.

ومع أن الخلاف كبير فقهياً وأصولياً بين الشيعة والعلوية، وهناك فتاوى تكفير مشهورة من مراجع الشيعة، بحق أتباع محمد بن نصير مؤسس الفرقة العلوية في القرن الثالث الهجري، ولكن كل هذه الفروق تنصهر في ساعات المخاطر المشتركة، ويلتف الناس حول المحارب المنقذ، وخلال أسابيع قليلة من الصراع صار الجميع شيعة، النصيرية والدروز والاسماعيلية، بل حتى ميشال عون والناطقين باسمه تحولوا إلى الحديث عن مزايا الولي الفقيه، وضرورته لحماية الأقليات المنكوبة!!

ومن جانب آخر، فإنه لا أمل أيضاً في أي فرز على أساس مذهبي، لأن الانتشار السني والشيعي عارم، في كل المدن السورية والعراقية واللبنانية، والتداخل كبير، ومن المستحيل تأمين أي فصل على أساس طائفي، وأي تقسيم على اساس الفرز بالأغلبيات سينتج دولاً متعادية متحاربة، وأقليات مسحوقة محتقرة، وفي الحالين فالكارثة متحققة، ولا خيار للناس إلا العيش المشترك.

النظام يزول ولكن الطائفة باقية، والمستبد يرحل ولكن المذهب مستمر ولا يستطيع أحد إلغاءه، وعلينا استئناف العيش معاً كما كنا خلال التاريخ كله.

إن المشهد الطائفي في سوريا ليس شأناً خارجياً في الجوهر، ولكنه صار اليوم محكوماً بإملاءات الخارج، وإن الصورة الحقيقة للصراع أن هناك طائفتين حقيقيتين مفروزتين ومتعادلتين في العدد والنفوذ، تدعم الأولى إيران بمخزونها النووي ووزنها الاستراتيجي، وتدعم الثانية دول الخليج بقدراتها المالية والسياسية، والحلفان لا يملكان التراجع، ويعتبران المعركة في سوريا والعراق مسألة وجود، ولا بد من حسمها بما يضمن المصالح الاستراتيجية لكل منهما، ويدفع ثمن ذلك كله، الشعب المنكوب الذي يعيش في أتون الحرب وقدرها، دون أن يكون له في ذلك أي اختيار.

هل سيدرك السوريون أن التنوع المذهبي والديني الذي طبع حياتهم هو قدرهم الذي لا مفر منه، وأن حربهم على الطائفية لا يعني حربهم على الطائفة، وأن إلغاء الطائفة مذهبياً أو إيمانياً هو مشروع استئصال، وأن أي مراهنة على طائفة فوق الطوائف، ومذهب فوق المذاهب هو انتحار للمجتمع بأسره، وأن المطلوب هو مذهب بين المذاهب، وحزب بين الأحزاب، وطائفة بين الطوائف.

 

*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق