لأمدٍ طويل، ولو حُسب الأمد بعمر الأفراد لكان مئات السنين! قُمع الإنسان في سوريا، فغَيب الاعتقال الناشطين السياسيين وكل مخالف لأوامر السلطة، أو كان عليهم الهجرة أو التواري والاختباء خلف أحابيل اللغة، الجوع لم يكن طاغياً ولكنه وبدءاً من عام 2000 فإن أرقام الفقراء تتصاعد دون توقف وكان الانفجار عام 2011. رغم ما سبق، ففي الوعي المجتمعي العميق بقيت أفكار أولية عن حقوق الإنسان حيث له الحق بالاحتفاظ بتنوعه القومي والثقافي والسياسي والجنسي والديني وتأمين احتياجاته الأساسية والاجتماعية، وأن جميع السوريين متساوين في الحقوق والواجبات. برز هذا الوعي حينما كانت الثورة في أشهرها الأولى. ولكن وحالما تدخلت المعارضة لقيادتها، بدأت المشكلات فيها وفي الوعي أيضاً، والنظام بدوره أيضاً أخافته النزعة الإنسانية هذه. فالأخيرة تخالف منظومة العبودية التي حاول أن يكرسها بعلاقته بالشعب.
قام النظام بممارسات تمييزية ذات طابع طائفي في كامل المدن السورية، ورشى القوى السياسية الكردية بما عُرف بقانون الجنسية ولاحقاً بالانسحاب من مناطق الأغلبية الكردية ودَعمَ حزب صالح مسلم وأنزل أشدّ القمع بخصومه. أراد بذلك تطييف الثورة وتقوية النزعة القومية عند الكرد، ونجح في الأمرين معاً.
وبدخول السلاح إلى خط الثورة، تراجعت قيمة الإنسان، فأصبح حامل السلاح هو الحامي وهو الثوري وهو القادر على تحقيق أهداف الثورة. تعمق الطلاق لحقوق الإنسان بدخول الإسلام السياسي إلى خط الثورة ولاحقاً الجهادية. هنا قهقه النظام في جوفه العميق، فبهذا الدخول تنتهي فكرة الثورة ونزعتها الإنسانية العابرة للطوائف والقوميات والرافضة لكل تسييس لها، ويصبح الحراك طائفياً سيما أن ذاكرة السوريين مشروخة منذ حرب الثمانينيات وقبل ذلك هناك حساسيات دينية تاريخية بين الطوائف وبين الكرد والعرب وهناك إشكالية انتفاضة 2004 والتي يدين الكرد بها العرب لتركهم عزلاء أمام النظام عدا قضية الحزام العربي والإحصاء العنصري في الستينيات. بالتالي حرف الثورة عن مضمونها الإنساني.
المعارضة عَزفت على قصة الأقليات وأنها غير مشاركة بالثورة والأخيرة ثورة الأكثرية، وبالتالي لم يعد هناك إنسانٌ في سوريا! بل هناك طوائف متقاتلة، فالأقليات حاميها النظام والأكثرية حاضنة الثورة. هذا الكلام مُزيف للوقائع، فلا كل الأكثرية حاضنة،فدمشق وحلب وكثير من السُنّة ولا سيما أثريائها وبل وبعض البلدات ذات التدين السني ولسبب مناطقي وتنافس بين بلدات متعددة أعطت ولائها للنظام، وبعضها تخوّف من الدمار فوقف معه وهكذا؛ مقابل ذلك فإن الأشهر الأولى في الثورة شهدت تفهماً لمطالب الثورة والانضمام إليها، ولكن لما ابتعدنا عن 2011 بدت التعقيدات كبيرة، وبدا التزييف لواقع الحال مخيفاً؛ وسطت على الثورة سردية الأكثرية ثائرة والأقليات حامية للنظام وهي حاضنته.
هذا الفهم الضيق لم يكن في وعي الأصوليين والطائفيين فقط، بل كان سياسةً المعارضة وسياسية النظام بأن واحد، وخارجياً لم يُر الصراع إلا كذلك لا أنه صراع شعب ضد نظام ناهب ديكتاتوري. تعمقت المشكلة بهدر ليس حقوق الأخر، بل وبتبرير سياسة الاجتثاث، وتبادل النظام وأطراف في المعارضة ولا سيما المجلس الوطني ولاحقاً الائتلاف الوطني الإشكالية ذاتها: أي الأخر لا قيمة لوجوده ويجب اجتثاثه. النظام فعلها تماماً وساد القول المعروف: الداخل مفقود والخارج مولود. وفي إطار الكتائب المسلحة كان القتل سائداً، ولم تكن القضية قضية مقاتلين يقتلون في المعارك بل كان الموت لأتفه الأسباب، وحتى حينما يصبح المقاتلون مجردين من السلاح. لن نتكلم عن طرق قتل داعش، فهي قتلت ناشطي الثورة وجنود النظام بلا أية رحمة، وتحت مسمى تطبيق الشريعة. إذاً هدر قيمة الإنسان وصلت إلى أعلى نماذجها انحطاطاً.
ما ساد من علاقة النظام بالمعارضة والحاضنة هي ضرورة قتلها، وما ساد برأي المعارضة والكتائب المقاتلة الأمر عينه. النظام وبعد أن فقد أغلبية قواه البشرة راح يقتل بالطائرات والمعارضة وبسبب عجزها عن التقدم وربما لثأر وانتقام من الأهالي تطلق صواريخ وقذائف على المدنيين، وتبرير كل ذلك ومهما كان التبرير دينياً فإنه لا يقدم حجة واحدة لسبب القتل سبب الانتقام والغباء والاجتثاث وغياب كامل للعقل وللتفكير بالمستقبل، وبضرورة تجنيب المدنيين وحتى المسلحين حالما يرمون سلاحهم القتل، بل والاهانة واعتقالهم لأسباب تفيد طرفي الصراع.
ما قلّل من قيمة حقوق الإنسان كثقافة وكممارسة هو غيابها لعقود متتالية، وغيابها عن فكر المعارضة، التي لا تمتلك للمستقبل رؤية تتجاوز معاقبة طائفة وهي العلويين–وربما الأقليات- لما يرونه من تأييدٍ للنظام، وتبرير وصول الإسلام السياسي للسلطة كتعبير طبيعي برأيهم عن المجتمع ولاحتواء هذه الظاهرة، وهناك رأي متطرف يرى الطبيعي في الأمور أن تكون السلطة القادمة بيد الإسلاميين "المعتدلين" عدا أن هذا الرأي يغيبمفهوم المواطنة، والذي يمنع وجود شكلين لانتماء الإنسان للدولة، أي وفقاً لحقوق المواطنة ووفقاً لحقوق الطوائف، فإن هكذا رأي يَبني كل رؤيته لمستقبل الحكم وفقاً للمثال اللبناني والعراقي، المثال الذي تنتفض الشعوب ضده، فإنّه يؤسس للقتل على أساس الهوية الدينية كما في العراق تماماً. وهنا تسقط كل مفاهيم حقوق الإنسان ويسود القتل "الأحقر" أي التعذيب أثناء القتل.
إذاً النظام يستمر في تجاهله لهذه الحقوق، فهو لا يعترف بوجود البشر ليعترف بحقوقهم. مشكلتنا الفعلية تكمن في ممارسات المعارضة التي بررت قتل الآخر (الموالي) وفقاً لاعتبارات سياسية أو دينية بينما هو قتل لاعتبارات ثأرية وانتقامية ولو تغطت بنص وحديث. بهذا تصبح المعارضة وليس فقط الإسلاميين والجهاديين يُشبهون النظام في عدم الاعتراف بالإنسان وحقوقه.
قضية حقوق الإنسان جزء من قضية المواطنة، وكلما تراجعت ثقافة المواطنة تراجعت كل الممارسات التي تصون الإنسان. المجتمع بوعيه التقليدي يصون حقوق الإنسان والتنوع التاريخي للتمايز البشري، أي يتجه تلقائياً وتاريخياً نحو تمثل حقوق الإنسان وفقاً للشرعة الدولية.
مشكلتنا الآن، أنّ الثورة تلوثت كثيراً وسادتها مجافاة لثقافة حقوق الانسان، وهذا عكس ممارساتها في عام 2011. الآن هناك فرص جديدة للعودة لتلك الروح، فالعالم كلّه منشغل بإنهاء الوضع السوري لأن النظام ضعيف للغاية، أصبح الوضع يُهدد دول الإقليم، ولنفترض قراءتنا هذه خاطئة وسوريا ليست بطور الحل، فإن العودة لروحية 2011 والتأكيد على أن الثورة لكل السوريين ولنيلهم حقوقهم كاملة يشكل حجر الزاوية في الوصول إلى أهدافها.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".