القريتين.. فضيحة العهدة العمرية

القريتين.. فضيحة العهدة العمرية
القصص | 14 سبتمبر 2015

وفي المركز الثقافي في القريتين التقى قياديون من تنظيم "داعش" بجمهور من المسيحيين في القريتين، وتم توقيع عقد الذمة بين الطرفين.

وأود أن أشيد أولاً بشجاعة أهل القريتين، وهي البلدة الطيبة في قلب الصحراء السورية التي تضم 35000 ألفاً من المسلمين والمسيحيين، عاشوا خلال تاريخ طويل في وئام ومحبة، واتحدوا حتى في اختيار اسم بلدتهم، وسموها القريتين بدلاً من توزيعها بين نزالا وحصرعينان، وهو الاسم القديم للبلدة الذي كان يقسم سكانها من قبل، وقد ورد ذكرها في العهد القديم بصيغة الجمع الآرامية، وضرب لها في شعب قرياتييم، وتضم سبعة جوامع وكنيستين إضافة إلى دير تاريخي فيه مقام مارليان وسمي باسمه حتى يوم دخول "داعش" التي أحالته فوراً أثراً بعد عين.

ومن المؤكد أن رجال القريتين ونساءها أظهروا شجاعة كبيرة في تمسكهم بأرضهم في وسط الصحراء في هذا الزمن الرهيب، بعد أن تركهم النظام لمصائرهم وأقدارهم، وولى بعيداً، ووقفوا أمام الفريق الداعشي المحارب الفاتك بإرادة قوية، ومغامرة رهيبة، وتحدثوا عن تاريخهم وعيشهم المشترك مع المسلمين، ورحبوا بأي صيغة اتفاق تبقيهم في أرضهم وبين خيراتهم وذكرياتهم وأطلالهم.

وأشار رجال "داعش" إننا نوقع معكم عقد الذمة الذي وقعه الخليفة العادل عمر بن الخطاب مع أهل القدس، وأنه حكم الله من فوق سبع سماوات.

ومع أن الموقف لا يحتمل أي نوع من الإعجاب، حيث يشكل عودة للهمجية الطائفية، بعد أن عرف العالم دولة المواطنة والمساواة، ولكنني استبشرت في الواقع بداية الأمر، لأن عمر بن الخطاب بالفعل قدم للنصارى العهدة العمرية التي رواها المؤرخون وهي صيغة تعتبر متقدمة في ذلك العصر الذي كانت فيه السيادة للمتغلب ولم يكن للشعب حقوق، ومن المدهش أن المسيحيين أنفسهم يعلقون العهدة العمرية في صالات كنائسهم على أنها صورة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين خلال التاريخ.

ومن المعروف أن عمر بن الخطاب شهد بنفسه تسلم مفاتيح القدس من البطريرك سفرنيوس، وأنه أظهر جانباً غير معهود من الاحترام لدين القوم وعقيدتهم، وحين أدركته الصلاة خرج من الكنيسة فصلى خارجها وقال لهم لقد خشيت أن أصلي في كنيستكم فيأتي من بعدي ويقول هنا صلى عمر وسيتخذون من مصلى عمر مسجدا، فخرجت من الكنيسة حماية لكم وإقراراً بحقكم في معابدكم.

و"العهدة العمرية" كما رواها شيخ المؤرخين والمحدثين الطبري في تاريخ الأمم والملوك تنص على: "هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. 

ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم".

ولكن المفاجأة أن "العهدة العمرية" التي تقرؤها "داعش" هي غير هذه العهدة التي نعرف، حتى بالنسبة لي وأنا الذي أدرس الفقه الإسلامي في الجامعات منذ عشرين عاماً، صدمني النص الذي تحمله "داعش"، وهو نص يختلف اختلافاً جذرياً عن النص المشهور، وقد عكفت أياماً أدرس النص الداعشي وأصبح من الواجب علي أن أضع القارئ أمام النص المتوحش الذي يرويه الدواعش، وصيغة الاستعلاء والاستكبار التي تغلب عليه، ومما ورد فيه على لسان النصارى المعاهدين: "ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة، ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا،  ولا نخرج شعانين ولا باعوثا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا".

ومع أن النص الداعشي ليس له علاقة من قريب ولا من بعيد بالعصر الذي كتب فيه فلم يكن في عصر الصحابة شعانين ولا باعوثاً، ولم يعرف النصارى بشد الزنار على أوساطهم إلا في عصر الحروب الصليبية، ولكنه على الرغم من ذلك حظي برواية جمع كبير من المؤرخين والمحدثين وخاصة الحنابلة منهم، وقد رفع هذه الرواية البيهقي بالإسناد إلى عبد الرحمن بن غنم، وعنه نقل ابن كثير في التفسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وعنهما نقل ابن زبر الربعي في شروط النصارى، والبهوتي في كشاف القناع، وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، واعتمدها الحنابلة عموماً. وترجع رواية نص التسامح إلى الطبري، فيما ترجع رواية نص التشدد إلى البيهقي.

ومع أن الطبري المتوفى 310 هجري أسبق من البيهقي المتوفى 458 بنحو مائة وخمسين عاماً، وكذلك ابن كثير المتوفى عام 774  وابن عساكر المتوفى عام 571، وكان من المنطقي أن يأخذ اللاحق عن السابق، ولكن الاستبداد يتخير ما هو أشد شراً ولؤماً من النص التاريخي، وهو يمارس الانتقائية التي نمارسها جميعاً ولكنها الانتقائية السوداء التي تقيم خياراتها على أساس الأشد بطشاً وظلماً وليس على أساس الأكثر عقلانية وملائمة للواقع الاجتماعي والقيم الإنسانية.

وقد أخذ ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم بالرواية المتشددة، التي تفرض الاستسلام المهين، ونقلها من قبله ابن كثير في التفسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وعنهما نقل ابن زبر الربعي في شروط النصارى، والبهوتي في كشاف القناع، واعتمدها الحنابلة عموماً، وصارت مذهب السلفية الجهادية التي هي أصل الحركات المتشددة اليوم.

ولا يعرف تاريخ عمر بن الخطاب أنه شهد فتح مدينة مسيحية إلا القدس، ولا يعرف في تاريخه أنه كتب عهداً للنصارى إلا في القدس، وهو ما تدل له الروايتان المتناقضتان.

ولا شك أن مبدأ الجزية اليوم غير مقبول في نظم المواطنة الحديثة، ولكنني أعتبر هذا النص جد متقدم وإنساني في تلك المرحلة العسيرة من التاريخ البشري، والذي كانت تسود فيه ثقافة "الناس على دين ملوكهم"، وكانت البلد المفتوحة مباحة للفاتحين قتلاً وسبياً واسترقاقاً، وهو بؤس شارك فيه الجميع في تلك المرحلة من التاريخ، ولكن هذه العهدة العمرية كانت موقفاً جيداً بالمقارنة مع الواقع البائس.

إنني هنا لست في معرض تسويق لنظام الجزية الذي أعتقد جازماً أنه انتهى منذ قرون، عبر موقف الاستحسان الأصولي الذي قرره أبو حنيفة، وقرر فيه ترك ظاهر النص إلى مقاصده، والعدول عن قياس جلي إلى قياس خفي لعلة اقتضت ذلك العدول، وهي تأمين العدل والعيش المشترك للناس، ورفض الإكراه في الدين والإجبار في الاعتقاد، وهذه قيم إسلامية أصيلة كافية أن تنهي نظام الجزية كله بالاستحسان كما يعرفه الأصوليون، وقد تم ذلك بالفعل ولا يطبق حد الجزية اليوم في أي بلد إسلامي من الدول السبعة والخمسين الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، ويمكنني القول إنه لم تطبقه منذ عدة قرون أي دولة إسلامية معتبرة.

وفي نيسان الماضي أعلن رئيس جامعة الأزهر الدكتور عبد الحي عزب، أنه لا يجوز أن يحتوى منهج تعليمي في الأزهر على تأييد مفهوم الرق والجزية، وهو موقف شجاع يفرض مراجعات عميقة على المناهج التعليمية في الدول الإسلامية.

إنها صفحة أخرى في موسوعة المأساة السورية، وصفعة أخرى على وجه النظام المستبد الذي حول شعبه إلى شهداء ومهجرين في شتات الأرض، أو رعايا لدى قوى الظلام الهاربة من العصور الوسطى، ولم يستطع أن يحميهم في عذاباتهم، وصرح بأنهم ينسجب باستمرار إلى الأرض المفيدة، تاركاً شعبه يخطون مصائرهم بشجاعتهم في غياب تام للدولة.

ولكن ذلك كله لا يلغي أن الجانب الأكبر من المسؤولية في هذا يقع على رجال الدين الذين يروون للناس سطور التاريخ بالمسانيد المقدسة، ولا يقومون برسالتهم في رفض الشر والقهر مهما كان معصوماً بالنصوص المقدسة، ولا يقولون الحقيقة الكاملة وهي أن الإنسان هو غاية الله من الخلق، وأن الأنبياء جاؤوا ليقوموا بالقسط بين الناس، وأن قيام العدالة والمساواة ورفض الظلم والقهر هي رسالة الأنبياء والأديان، وبدون ذلك فلا معنى لنبي أو دين.

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق