مقالات الرأي | أحدثت صورة الطفل آلان ووجه للبحر وقدماه للعالم بأكمله، وصورة الشاحنة النمساوية الممتلئة جثثاً لسوريين مذعورين من النظام السوري ومن إعادتهم إلى بلادهم تفاعلاً وتعاطفاً اجتماعياً أوروبيا واسعاً. التفاعل هذا سرعان ما صادرته الأنظمة الأوروبية التي تعاني من تقدم اليسار في اليونان واسبانيا ودول أخرى، معلنة عن استقبالها مئات ألوف اللاجئين وأبرز موقف قالته زعيمة ألمانيا، والتي رفضت كل تنازل في المفاوضات مع حكومة اليونان المنتخبة ديمقراطياً لتأجيل الديون أو إلغائها، وهو ما يسبب أزمة اجتماعية خطيرة وحالة فقر كبيرة ولا سيما في صفوف الشباب، وأزمات كبيرة ومنها ارتفاع نسب الانتحار في هذا البلد.
ميركل وبعد تصريحاتٍ ناريةٍ لتسهيل عبور اللاجئين عادت وأكدت أن اتفاق دبلن الخاص بتنظيم شؤون المهاجرين وبأن قوانين الهجرة لم تتغير أبداً. هذا يعني أن موقف الأنظمة هذا، يتعدى مفاهيم التسامح والرأفة والعطف بالمهاجرين. ما يكشف الكذب هنا الصمت المطبق للأنظمة الأوربية على جذر المشكلة والسماح للنظام السوري بتدمير سوريا وقتل وتهجير الملايين فيها.
مصدر هؤلاء اللاجئين أيها السادة ليس مجهولاً وليس من كوكب غير الأرض بل هم من بلاد استقرت الحروب فيها، كسوريا أولاً والعراق وبلدان أفريقية وأسيوية. استقرت بسبب التدخل الأوربي والأمريكي في العالم. العالم الذي قيل أنه أصبح قرية صغيرة، وبالتالي يسيطر عليه الأكثر نفوذاً أي أمريكا أولاً وثانياً اليابان وأوروبا ومعهما روسيا والصين. هذه السيطرة هي سبب مشكلات العالم وسبب أزمة اللاجئين السوريين حالياً. أوروبا وأمريكا تركت السوريين يموتون.. فكم من اجتماع عُقد لمجلس الأمن الدولي ولمؤسسات الأمم المتحدة بخصوص سوريا وماذا كانت النتيجة؟ ألم يخرج النظام منتصراً منها؟
نعم أيها السادة: حكومات أوروبا كاذبة، ولكننا نصدق شعوبها، الكارهة لتلك الحكومات، والمبتعدة عن ديمقراطياتها، والتي تحركت لمساعدة اللاجئين حالما رأت كارثة الطفل آلان وتدفق المهاجرين المذعورين.
بخصوص اللاجئين، لا يمكن لعاقل إلا تأكيد الحق المطلق لأي انسان بالبحث عن الأمان. ولكن ملايين اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان، لا تزال حياتها هي هي، وهم الهاربون من الموت المحقق، هم الذين تركوا مدنهم وأحيائهم المدمرة وقراهم بكل ما فيها لينجوا من الموت، هؤلاء لا زال وضعهم كما هو، وهؤلاء من يستحق المساعدة واللجوء وكل أشكال الدعم.
أغلبية من يركب البحر أو يقطع عبر البر، أو عبر الطيران، جميعهم ليسوا بوضعٍ ماديٍّ سيء، بل الكثير منهم باعوا ما يملكون أو جزء مما يملكون وهاجروا. لا أشك أن لهم الحق بالبحث عن الأمان، ولكنهم يأخذون فرصة أناس يسكنون في العراء، ولا يجدون من يتصدق عليهم. هذه هي الحقيقة.
وعدا ذلك هنا قطاع بشري استغل ما يحدث في سوريا ليتنقل إلى أوروبا، ومنهم من كان عمله جيداً في دول الخليج مثلاً، واكتشف أنه سوري وانتقل. هذه انتهازية فظة وعمل جبان وتتم على حساب دماء الناس واستمرار انهيار بقية المهجرين في الداخل والخارج.
لن نتكلم عن حياة المخيمات في الداخل أو الخارج، فهم يعتاشون على المساعدات الدولية الشحيحة، فليس في سوريا عمل يقومون به، وبالتالي هم بأشد العوز والفاقة، وهذا ما أدى لمشكلات اجتماعية كبيرة، كعدم التعليم والزواج المبكر وانتشار الأمراض وسواها. والأنكى أن كافة مؤسسات المجتمع المدني تحولت إلى مشاريع لمنشئيها، وكأعمال استثمارية ولم يستفاد منها فعلياً من أجل إيفاء حاجات الناس.
المعارضة التي فشلت في كل شيء، وتحوم حولها شبهات الفساد، اقتصر اهتمامها الكبير على إصدار بيان يشكر أوروبا في مساعيها ويدين النظام على مجازره وتهجيره للناس. هذه المعارضة وتحديداً المجلس الوطني ولاحقاً الائتلاف الوطني، هي من لم يتواصل مع الشعوب الأوربية، وآلوا على أنفسهم مجالسة وزراء الحكومات الأوربية، ومؤسسات المجتمع المدني. لهذا السبب، لم يتعرف الأوربيين على حقيقة الوضع السوري إلا بعد الوصول الكثيف للاجئين كعائلات كاملة وليس كشباب فقط وبعد موتهم بالبحر وبسواه.
جذر قضية اللاجئين هي ممارسات النظام الموغل في دمار المدن وقتل البشر وتهجيرهم. وأُضيفَ للمأساة توسع القوى التكفيرية المتطرفة وتهجير الناس من خلافتها أو ولاياتها. التحالف الدولي والذي ستنضم له فرنسا مؤخراً، وبدلاً من مواجهتها يستفيد من حربه ضدها من أجل ترتيب شؤون كل المنطقة وربما يتم من خلال الحرب إتمام صفقات دولية تخص أوكرانيا، وبالتالي لا أهمية للسوريين في حسابات ميركل وأولاند وبقية زعماء أوروبا. اللاجئون السوريون الواصلون إلى أوروبا مجرد ورقة سياسية للاستهلاك الداخلي وللتوازنات السياسية، ولمصادرة الحراك الشعبي الأوربي لدعم اللاجئين أولاً وربما ثانياً منع الحراك من الضغط على تلك الحكومات من أجل إيقاف الحرب المجنونة في سوريا.
القضية التي يجب أن تتوجه لها كل تيارات السياسة والثورة واللاجئين السوريين في أوروبا الآن، هي إيصال رسالة للأوربيين أن قضيتهم ليست الهجرة إلى أوروبا بل إيقاف الحرب في سوريا. فإيقاف الحرب سيحد من اللجوء وسيساعد في عودة ملايين السوريين، وستنتهي المأساة. الآن هناك مفاوضات دولية من اجل الحل السياسي ولكنها مفاوضات لاستهلاك الوقت ريثما يحصل توافق دولي جدي، ومسارات ديمستورا الأربعة ليست واضحة بخصوص رأس النظام، والمعارضة تضع عليها شروط كثيرة، وقد تقبل بها خوفاً من العزلة الدولية لكل من يرفضها.
آلان الصغير وأخوه ووالدته ماتوا جميعاً، ومثله مئات الأطفال، وآلاف السوريين في البحر، عدا عن أشكال الموت اللامتناهية في الداخل، ولا داعي للتذكير فيها، ولكن ماذا بعد قدمي ألان المنصوبة في وجوهنا ووجه البشرية قاطبة؟.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".