البلعوس.. شيخ الكرامة وحق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة

البلعوس.. شيخ الكرامة وحق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة
القصص | 05 سبتمبر 2015

وفي يوم دام أحمر من أيام العذاب السوري رحل شيخ الكرامة ابن الجبل الأشم وحيد البلعوس بتفجير غادر في مدينة السويداء، وأراد القاتلون أن يختفي فيه هذا الصوت الصريح الجريء المعارض لنظام الاستبداد والحرب، ومع أننا في الساعات الأولى لرحيله، ولكن التأثير الذي تركه الرجل سيبقى سنين طويلة، وسيؤسس جهاده لحركة مقاومة واعية ضد استحمار الإنسان وسوقه إلى الحروب المجنونة، وفق إرادات السياسة المعدومة الضمير.

لم يكن البلعوس صاحب فلسفة وأدلجة، ولم يكتب أفكاره في مصنفات عميقة، ولم يكن ضيفاً على النوادي الثقافية والأكاديميات العلمية، ولم يرتد تلك البزات الأنيقة التي يرتديها الزعماء والقادة والأكاديميون، لقد حافظ حتى النهاية على شاربيه المعقوفين وعلى السروال الأسود، الملتحم بأرض السويداء الغاربة في الكرامة والأصالة.

لقد كان رجلاً بسيطاً يختصر ما في الإنسان السوري من حرية وكرامة، ولم يكن يرضى لقومه أن يكونوا وقوداً لحرب يشعلها الطواغيت للحفاظ على الكراسي والمناصب.

وإذ أكتب في رحيله فأنا لا أقرأ من كلماته وتحليلاته وخطاباته، وإنما أقرأ من موقفه المجيد في رفض الحرب، حيث كان أشهر سوري يطبق بشجاعة وجرأة واقتدار حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة.

لقد كتبت من قبل في هذا الحق الذي أهملته المواثيق الدولية، وغاب عن أساطين السياسة العالمية وهم يرسمون ملامح العالم الجديد، في ربيع السلام العالمي الذي تجلى في إعلان حقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر 1948 بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت نهاية عصر الحروب بالنسبة للعالم المتحضر.

لقد كان إعلان حقوق الإنسان حدثاً عظيماً في تاريخ البشرية، ومن حقنا أن نسجل للعالم تلك اللحظات المجيدة التي شارك فيها رعماءالعالم بالتوقيع على وثيقته الأولى، وإن كان كثير من مضامين الإعلان قد ظل حبراً على ورق، وعاملته بلاد الاستبداد ومنها سوريا بأنه مؤامرة على الأمة العربية والنهضة القومية إلى آخر ديوان الدجل الذي لا ينتهي.

ولكن الميثاق حتى في آفاقه العالية لم يبلغ كثيراً من آمال العدالة التي كان ينشدها الناس، وكان من أهم ما سكت عنه: حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة.

حتى اليوم لا تعترف دول العالم المتحضر بهذا الحق الإنساني النبيل، وهو حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، ولا تزال معظم قوانين العالم تفرض عقوبات شديدة تصل إلى الإعدام على من يتمرد على الأمر العسكري، وتفرض دول الاستبداد طوباوية ميتافيزيقية في ثقافة الخطاب العسكري، تخترع المجد والقداسة لسلوك رجال الجيش، وتحصنهم من المساءلة والمحاسبة، وقد كرس الاستبداد في سوريا لوناً جديداً من تمجيد القتال والحرب، لم يعرفه العالم كله، على هيئة ساحات عامة تقام فيها تماثيل للحذاء العسكري، وهو استخذاء قميء لا معنى له إلا الذل والتوحش، وكأن ليس للجندي جبين أو كتف أو رأس يرمز لصموده، ثم يمضي هؤلاء لخلع صفات الخيانة والدناسة والجبن والخور لأولئك الذين لا يؤمنون بالحرب ولا يرون في البندقية أي نوع من الشرف، ولا يرون في القتل أي نوع من المجد.

حتى في أمريكا فإن محمد علي كلاي تعرض لسحب اللقب العالمي منه وزج في السجون الأمريكية حين أعلن تمرده على الحرب الظالمة التي يشنها الجيش الأمريكي على فيتنام، ولم يستطع محاموه أن ينقذوه من سلسلة المحاسبات التي أودت به إلى السجن وجردته من كثير من الحقوق المدنية في عاصمة العالم الحر أمريكا.

ولكن لم يتساءل أحد عن المعنى الأخلاقي لخوض حرب لا يؤمن بها المقاتل، ولا يرى فيها أي لون من الكرامة والحقيقة.

في قراءتي لسيرة النبي الكريم أدهشني وعيه بهذا الحق، لقد رفض الحرب بكل ألوانها وأشكالها أكثر من أربعة عشر عاماً وهي تبلغ ثلثا عمر الرسالة، وفي الثلث الأخير أصبح الرسول صاحب دولة وكان لا بد له من جيش قوي يحمي دولته، ولكنه حين أراد الحرب لم يشأ أن يذهب إلا بموافقة صريحة من الجند، وفي يوم بدر ظل يقول أشيروا علي أيها الناس، أشيروا علي أيها الناس.

وحين قال المهاجرون إننا خلفك يا رسول الله ولو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ظل يقول أشيروا علي أيها الناس.

ولم يتقدم خطوة واحدة إلى الحرب إلا بعد أن قام زعيم الأنصار سعد بن معاذ وتحدث باسم الأوس والخزرج عن إيمانهم بعدالة هذه الحرب، وضرورة القتال دفاعاً عن النفس وعن الرسول وعن المدينة.

لا يمكن اعتبار الفقه الإسلامي مؤسساً لنظرية حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، فقد عاد الفقهاء ارتكاساً وقرروا أحكاماً لعينة قاسية في حق الفار من الزحف، واعتبروا القتال واجباً عينياً على الناس، ولكن من حقنا أن نمارس هذه الانتقائية لنؤكد أن هذا الحق الإنساني يمكن تطبيقه في غمار الحروب.

حين يعلم المقاتل أن حقه محفوظ في التمرد على الحرب الظالمة، وأن العالم يعترف بهذا الحق ويحميه من استبداد نظامه، فإن كل شيء سيتغير، ويتعين عليهم أن يقدروا تماماً عدد المؤمنين بهذه الحرب وليس عدد أفراد الجيش، وسيعلم المتمردون أن هناك من يحميهم من بطش الأنظمة، وأنهم سيعاملون في العالم وفي القضاء الوطني كشرفاء وإنسانيين.

حين يعلم المستبد أن جيشه لايؤمن بالحرب، وأن من حقه أن يتمرد فإنه سيعيد حساباته ألف مرة، ولن يتورط في الدخول إلى حروب محنونة خائبة.

قال لي كامل الشريف حين عرضت هذه النظرية في المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة ولكن يا صاحبي من سيقرر أن هذه الحرب عادلة أو ظالمة؟ قلت له بالطبع الجندي الذي سيضع روحه على كفه هو من يقرر، قال لي: إذن سيقول الجنود دوماً إننا غير مقتنعين بهذه الحرب!.

قلت له وماذا يحصل إذن؟ قال: سنترك الجيوش وتتوقف الحروب!! قلت له وهل تريد نتيجة أروع من هذا؟؟!

رحم الله الشيخ البلعوس رائد هذا الحق الإنساني النبيل الذي دفع حياته ثمناً لموقف كرامة ومجد، وها هي سوريا تقدم زعيماً حقيقياً يقف في وجه أعتى استبداد وبطش في العالم ويصرخ ضد الحرب الظالمة، ويدفع حياته ثمناً للسلام، ومن حقه أن يشاهده العالم أيقونة سلام يطوف بها كل الذين لا يؤمنون بالحرب في هذا العالم.

*مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق