ليست لدي أية أدلة على أن زيداً ( وهذا اسم حركي مستمد من النحو ويحتمل أن لديه أخ اسمه عمرو) قد غادر سورية إلى ألمانيا، بقصد القفز من السفينة بعد أن تأكد أنها تغرق بالفعل.
وقد نحتاج لسؤاله أيضاً، فيما إذا كانت السفينة التي غادرها هي السلطة؟ أم الدولة؟ أم الوطن ؟ أم الطائفة؟ أم الأقلية؟ (وقد سمعت أنهم في أوروبا يمنحون اللجوء لأبناء الأقليات، في حين يقال هناك أن الأقليات تضطهد الأكثرية) في حين أن لدينا الفرصة لأن نقول، أو ندعي، أن رحيله نجم عن شعور غريب بالغيرة والحسد والغيظ أيضا بدأ ينتابه في الشهور الأخيرة، بسبب مشاهدة تلك الحزم من صور اللاجئين السوريين "السعداء" الجالسين على ضفاف الأنهار، أو بجانب البحيرات الزرقاء التي تسورها الأشجار في إحدى دول أوربا الخضراء. على الرغم من الحديث المتراكم عن مأساة اللجوء، وعذاب الغربة (رأى لاجئا سوريا يعانق زوجته كل مرة في مدينة أوروبية مختلفة ويشتم المعارضة أو يذم النظام ) والشوق إلى الديار، وهي مشاعر لا يستطيع أحد، أن يشكك فيها، أو "يزاود" على الآخرين بشأنها.
وهكذا فإن "زيد" رحل أخيرا، وكان رحيله مفاجأة من النوع الغريب وغير المفهوم لجميع أصدقائه، و معظم أعدائه. فالرجل الذي كان يخوض المعارك "الفكرية "و"السياسية"، على صفحات الجرائد السورية، أو في "المحافل" الثقافية مع أي رائحة أو همسة أو تحرك يفهم منه أن صاحبه يناصر الثورة، والرجل الذي كان يعلن أن البلد بخير، وأن المدينة (دمشق في حالته) ما تزال على حالها، تجتذب السياح (قرأت له هذه المعلومة في مقال صحفي) وتحتفي بالأعياد، إلى آخر ما هنالك من التوصيات الملهمة.
هذا الرجل بالذات أضحى لاجئاً.
يسمي الناس مثل هذه الوقائع في العادة هنا : "سريالية" لا أعرف من أين يمكن لأشخاص أميين أو نصف متعلمين أن يجدوا الرابط أو المماثلة الكافية لأي وجه من الشبه بين حادثة من هذا الطراز، وبين السريالية، غير أن المجتمع بات يقبل هذا التوصيف مقدرا أن "السريالية" في سلوك البشر تعني القيام بأعمال لا يستطيع العقل أو المنطق، أو حتى الخيال أحيانا، أن يتفهمها، أو يقبلها. ويزيد في سريالية الموقف أن ثمة من يقول أن زيداً هذا قد أجر شقته في دمشق (بعد أن باع أثاثها سراً) لأسرة مهجرة من حمص.
وفي جعبة الناس هنا الكثير من سرياليات الواقع العجيبة، (وهم يقطنون داخل السريالية ذاتها) فقد قفز سوري آخر من السفينة، بعد أن لبى الدعوة للمشاركة في أحد مؤتمرات المعارضة الذي كان يعاني من نقص حاد في الحضور، وسافر إلى البلد الذي استقبل المؤتمرين، ولم يكلفه الأمر سوى أن يخطو بضع خطوات، ليطلب اللجوء في رصيف بلد مجاور. السريالي الممعن في سرياليته أن نقرأ له منذ أيام تحليلا للأوضاع الاقتصادية المتردية في الغرب، يدعي فيه أن أساتذة الاقتصاد هناك لم ينتبهوا للعناصر الرقمية التي يقدمها.
إليكم مشهدا سرياليا آخر في أشكال القفز من السفينة: شاب سبق له أن كان قائدا لجناح من الميلشيا التي سميت الدفاع الوطني، وصل إلى أوروبا وطلب اللجوء الإنساني، وكان محتملا أن نكون أمام سريالية فظيعة لو طلب اللجوء السياسي.
ومن حولي ثمة منازل لم يعد فيها أحد، يغادر الابن في البداية، ثم تلحق به الأم، ثم تأتي السريالية العجيبة التي يسمونها "لم الشمل" عبارة رومانسية حنونة وساحرة وجذابة تجعل أوروبا العجوز تدمع، دون أن تكون قد حزنت ولو قليلا لمنظر اللاجئين السوريين الحقيقيين الذين تقتلع الرياح خيامهم، أو يجمد البرد أضلاعهم، أو يخنقهم الحر، في مخيمات اللجوء على أطراف البوادي التي اختار "أشقاؤنا" من العرب أن يأوي السوريون إليها.
الحقيقة هي أن الصورة ملونة أكثر من هذا بكثير، أو هي سريالية أكثر. فالهجرة من البلد باتت حلما لذيذا، لدى شرائح من أبناء سورية من الذين شاركوا في الثورة أو لم يشاركوا فيها، يمكن تخيل المشهد، ومن الصعب تصديق ما يحدث حتى لمن يرى بعينيه، ثمة من يجلس على الحافة ليقفز في اللحظة المناسبة، ثمة من يخشى أن يقذف به القراصنة إلى الماء، ثمة من ترك في قعر السفينة كي تقرض جسده الفئران. هنا أحاديث عن مشاريع وأحلام واستثمارات ممكنة في كذا أو مذا من الدول لأشخاص لا يعيشون أي معاناة، و أحاديث عن ذاكرة لا تريد أن تقتلع أو تنمحي أو تضيع من قبل أناس دمرت بيوتهم وأحرقت بساتينهم. وهو أمر يفتح الشهية الروائية (وهي شهية مضرجة بالدماء والكوارث) : فمن يحتاج إلى اللجوء بعد أن فقد أعزاءه وبيته وهدد بالاعتقال، يمضي إلى المنافي مرغماً، ومن لا يحتاج إلى اللجوء يدفع رشى لمافيا الهجرة كي توصله إلى إحدى الدول الأوروبية. بعض اللاجئين في الداخل، أخذت بيوتهم من قبل الشبيحة أو داعش أو النصرة أو أي قاطع طريق آخر، وبعض "اللاجئين" في الخارج، ابتلعوا حصص المحتاجين، وراحوا يضعون خطط التجنس، ويؤجرون بيوتهم في الداخل.
سريالية؟ ربما تكون كذلك من نوع يخص مأساتنا وحدها. وفي كل الأحوال فإننا في انتظار أن نعرف : ماذا تقول السفينة؟
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة.
*تم نشر هذا المقال بموجب اتفاقية الشراكة بين روزنة وهنا صوتك.