عن مثقفي الحرب

عن مثقفي الحرب
القصص | 15 أغسطس 2015

الحملة العسكرية التي يشنّها حزب الله والنظام السوري على الزبداني، و تلك الأخرى التي ينفذها مقاتلو المعارضة على القرى "الشيعية" في ريف إدلب، تترافقان مع حملات إعلامية يقودها مثقفون ونشطاء، على ضفّتي النظام والمعارضة، أخذوا على عاتقهم شرعنة وتبرير كلا العمليتين العسكرييتين هاتين، كما سواهما.

فبعد أكثر من ثلاث سنوات من الصراع المسلّح في سوريا، والذي أتى على البشر والحجر، لم يعد التساؤل عن شرعية استمرار الحرب من صلب اهتمام المثقّفين أو الأفكار التي يتناولونها، بل على العكس، كأنّ شرعية الحرب أصبحت أمراً بديهيّاً بالنسبة لهم من نواحٍ عدّة. تأتي هذه الحال كمحصلة لمجموعة عوامل، من بينها عدم تأصّل حرية الفكر لدى المثقّفين السوريين، حرية أحد أهم أساسياتها الاعتراف بالآخر المختلف وحقّه في التعبير عن رأيه وخياراته السياسية، بل لقد كان كثير من "النتاج الفكري" مبنياً على خلفيات عصبية ومصالح شخصية، لا تمتّ للتنافس السياسي أو القضيّة الوطنية بصلة.

في الزبداني حيث الغالبية التي تقطن هذه المدينة الصغيرة هي قاعدة شعبية للمعارضة وحاضنة لها، فإن أي اجتياح عسكري هو قهر لإرادة شعبها واحتلال للمدينة، تماماً كالهجوم على الفوعة التي يقطنها أيضاً شعب سوري موالٍ للنظام، واجتياحها من قبل المعارضة المسلّحة هو قهر لإرادة شعبها واحتلال لها.

من هذا الباب فإن كلا المعركتين غير شرعي وعدوان موصوف، وهذا الأمر لم يعد حالة شاذّة وإنما غدا سمةً تميّز معارك الحرب السورية، ابتداءً من (بابا عمرو) وانتهاءً بالزبداني والفوعة.

لقد كان الألم والدّم عاملين هامين في تطوّر الروح الثأرية لدى قطاعات واسعة من الشعب السوري، ودرج على الألسنة القول "كيف للناس ان تتصالح وقد سال كثير ٌمن الدّماء". مفعول هذه الدماء والنزعة الثأرية وصل إلى الطبقة المثقّفة والسياسية منذ زمن، لتتجاوز المصلحة الوطنية إلى مستويات أخرى تحت وطنية، فاصبح الخطاب منفعلاً تجييشيّاً، وراح المثقّف يجهد لتبرير مناظر الدّم وتناثر أشلاء السوريين.

ليس الوعي حالة ثابتة، فهو سجال بين عوامل متعددة منها مايتعلّق بالشخص كالملكات المولودة و المكتسبة، ومنها الظرفي المرتبط بجملة عوامل مكانية محدّدة، بل إن الوعي البشري متأثر زمانياً أيضاً، يختلف باختلاف الحقبة الزمنية. والوعي، تعريفاً، حالة عقلية. هذه الحاله نسبية، فعندما تتعلّق بماهية شيء ما تصبح هي حالة الالمام بظواهر ومحددات هذا الشيء. اما الادراك فهو إنتاج وآلية حسيّة بالدرجة الاولى وأداة متقدمه للوعي. ويُفترض أن يتحلّى المثقف بالإدراك النقدي لواقعه في سبيل إنتاج وعي متقدّم عمّا هو قائم.

على ذلك، كيف يمكن تبرير السقطات الفكرية للمثقفين، والتي كانت عاملأ مهماً في حرف الوعي السوري باتجاه الحرب الأهلية الدائرة، وليس فقط عنف النظام والتدخل الخارجي هما السبب في هذا المآل. لم تستطع النخبة المعارضة أن تقدّم وعياً يستوعب القسم الموالي للنظام من الشعب السوري، بل ألصقت به صفات "التشبيح" واتخذت موقفاً عدائيّاً تجاهه. في أفضل الحالات كان سقف خطابها الموجّه إلى هذه الفئة من السوريين "سنسامحكم إن تخليتم عن النظام وانضممتم إلينا"، فتهمة الولاء السياسي للنظام (وليس العسكري) لم يتسامح بها لا المعارض السلمي ولا المعارض المقاتل، وهي كافية لإعدام الموالي ميدانياً في "المناطق المحرّرة"، ومعنويّاً في الإعلام والمحافل السياسية.

تتلخص مهمة المثقف في الولوج بالوعي إلى أماكن جديدة، وليس تبرير مستويات وعي قائمة من خلال تبريرها ادعاءً بفهمها (كالحالة الثأرية مثلاً)، في حين يُفترض به نقدها وطرح بديلها إن أمكن. لم يتمكن الخطاب الفكري العام للمثقّف في أغلب حالاته من تجاوز هذا المستوى من الوعي بل حضرت مصطلحات الشارع بقوّة في لغة المثقف، وليس العكس. 

هكذا كان المثقف منفعلاً أكثر منه فاعلاً بالحدث، وانقسم المثقفون في ظروف الحرب السورية إلى فئتين أساسيتين: بعضهم تاه في دهاليز الحرب مثل منظري ومبرري الهجمات على الزبداني والفوعة، وأصاب بعضهم الآخر التوحد في برجهم العاجي، وهؤلاء معرّضون لخطر التجمد..

إن ظروف الحرب والمعطيات الراهنة تحدّد هذ التموضعات بدرجه كبيرة، وإن عملية إنتاج الفكر مهمّة شاقّة في أوضاع كهذه. لكن تبقى مهمة المثقف الملتزم قضايا مجتمعه انتاج الفكر من خلال الإدراك النقدي، والقفز بالوعي العام إلى مستويات أفضل تتجاوز الوعي الراهن.

*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق