دمشق.. الطريق إلى البيت

دمشق.. الطريق إلى البيت
القصص | 06 يوليو 2015

تمهلت وأنا أشرب فنجان الشاي في المقهى. كان الأصدقاء القدامى يأتون مسرعين، ملهوجين، فنتبادل السلام والتحيات، أو متباطئين ملولين حيث يمكن أن يجلس أحدهم إلى الطاولة، ونستعيد بعض الذكريات، أو ننبش عددا من الأسرار،أو نتبادل القليل من المعلومات الشخصية أو الأدبية، فيما كان هدير الصواريخ يمشط السماء فوقنا، أو كانت قذائف مدفع جبار تخلخل الكلمات التي نتبادلها.

وحين خرجت إلى شارع العابد، بدا لي أن الشارع ،كالمقهى، مرتبك بين لحظتين: الترقب والخوف، الانتظار والتردد. كانت السيارات تعبر بطيئة دون أن يلتفت سائقوها إلي، أو إلى أي من هؤلاء الذين يقفون على اليمين، ويرفعون ذراع المناداة، أو كانوا يحدجونني، حين أسأل أحدهم، وهو يقف عند حاجز التفتيش، فيما إذا بوسعه أن يقلني إلى جرمانا، بحقد أو احتقار، قائلين:لا! أو يحدث أن يرضى آخر من بينهم، فيصرخ من وراء المقود: "ألف وخمسمائة!" " طيب" أقول، فيشير لي، كي أصعد إلى سيارته، بلا مودة.

لا تعرف مغزى ذلك كله، إلا حين تصبح شريكاً في زحام الشارع، تزحف السيارات وسط الخشية والخوف والحذر، لم يعد بوسع السائقين التشويش على الزحام بأبواق السيارات كما كانوا يفعلون من قبل، فأسباب الزحام والمشي السلحفاتي تأخذ شكل جندي مدجج بالسلاح والحنق والسخط والغضب، يقف أمام حاجز من الوهم أحياناً، أو خلف زكزاك من البراميل المطلية بألوان العلم الوطني.

يلتزم الجميع صمت انتظار الرضا العسكري، وطاعة أوامر الحرص الأمني على حياة الناس، يهمس السائق قائلا: أنا ناس كمان! شارحاً لي، بما يشبه الاعتذار، أنه لم يأخذ اليوم - كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً- سوى طلب واحد. أنت الثاني . قال لي محددا هويتي المؤقتة. يصمت، وثم يكافح أسارير وجهه وهو يتطلع في مرآة سيارته، في مسعى لاستجداء ابتسامة يفترض أن ترضي عسكري الحاجز.

يعتقد السوري أنه يستطيع إفحام الجندي بابتسامة، أو استمالته بطرفة. وهو على استعداد لتكرار المحاولات رغم إرادة الرفض. هذا أمر متعلق بالأمل، أكثر من ارتباطه بالاستسلام. أظن أنه أقرب إلى"المقاومة بالحيلة"، نوع من "همس المحكوم من وراء ظهر الحاكم".

يفرج عسكري الحاجز عن سيارتنا على وقع الزحام، ولكن شارع بغداد يختنق دون إرادته، ينهر السائقين، يكتسي صوته نبرة رعب، فيصححه برشقة رصاص من الكلاشنكوف. "هذه صفارة الجنود"، يهمس السائق وهو يخفض رأسه. غالبا ما يتم تصحيح المرور بفوهات البنادق. ولكن على الرغم من أن هذا الأمر بات "معتادا"، فقد راح المارة المشاة يركضون ليختبئوا في مداخل العمارات، أو داخل أبواب المحلات المفتوحة. يضحك الجندي، يقهقه، وهو يواصل تفتيش السيارات.

لا تفرح! قال لي السائق، حين أعلنت راحتي، بنفس عميق مسموع يشبه التنهيدة. كان حاجز آخر يفتش السيارات، "حاجز طيار"، شرح لي السائق أمر الوجود الطارئ المفاجئ لمجموعة مسلحة تحز الشارع بسكين التفتيش الطارئ الذي يسمونه الحاجز الطيار "أعطني هويتك"، قال متذمراً.

كنت قد دسستها داخل محفظة النقود في جيب الجاكيت، مطمئناً بعد أن اجتزنا العسكري الذي ينظم المرور برشقات البندقية. تمهل أحد أفراد الدورية وهو يقرأ هويتي، ويمط شفته السفلى. أردت أن أسأل فيما إذا كان ثمة ما هو غريب، أو مشبوه، غير أن السائق أمسك ذراعي وضغط عليها. وحين نظرت إليه نبهني بسبابته كي لا أتكلم. ما أدراه؟ كيف عرف أنني كنت أريد أن أستفسر عن مغزى الشفة الممطوطة؟

قال لي في الطريق إنه صار يعرف ما هو المطلوب من المواطن تجاه الجندي، يكفي أن تنظر إلى شفتيه لتعرف خصاله. وقبل أن أعترض أو أبدي أي ملاحظة، بدأ يشرح لي طبيعة العلاقة بين أوضاع شفاه الجنود، وأخلاقهم : إذا برم الجندي شفته، إذا مطها، إذا زم شفتيه، إذا ..إذا .. فكرت أن أمازح أصدقائي فيما بعد فأقول إني صرت أعرف طباع سائقي الأجرة من طريقة تعاملهم مع العسكر: إذا قدم للجندي سيكارة، فإنه يكون كذا، وإذا ابتسم له، أو إذا طأطأ رأسه ..إلى آخره.

تبتعد جرمانا أكثر من المسافة التي كان يعرفها من قطن هناك ذات يوم، يبدو الطريق إليها بلا نهاية أحياناً، أنساق وطوابير من السيارات الراكدة التي تصطف على المحلق الجنوبي في الانتظار، أتذكر ما قالته إحدى صديقاتي تجاه الوقت الذي كان يموت بين يديها، وهي سجينة التكسي في طريق العودة إلى البيت: لم أستطع فعل شيء، لذا فقد انتظرت وبكيت!.

*تم نشر هذا المقال بموجب اتفاق الشراكة بين روزنة وهنا صوتك.

*مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة. 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق