نزح فجر يوم التاسع من تشرين الثاني عام 2012 أهالي بلدة "رأس العين" شمال شرق سوريا، عن مدينتهم باتجاه الحدود التركية، بعد أن دخلت 48 كتيبة مسلحة إلى المدينة عبر البوابة الحدودية مع "تركيا"، تقودها حركة "غرباء الشام"، الأمر الذي شكل هاجس خطرين لدى الأهالي أحدهما: سيطرة الكتائب المسلحة على المدينة، والآخر الخشيةً من قصف "النظام السوري".
مشهد الأهالي وهم ينزحون فجراً، كان إدراكاً لما ستصبو إليه الأمور لاحقاً، وتيمناً بأن القوى الآتية ستفرض هيمنتها على المدينة بإيديولوجيا بعيدة عن مطالب السوريين وثورتهم، وهو ما بدا واضحاً في مشهدين، الأول العفو عن رئيس مفرزة "أمن الدولة" لأنه "سنّي" وتقديمه على أنه معارض، مقابل محاسبة جميع عناصر الأمن العسكري لأنهم "علويين"،والمشهد الأخر إعلان بعض الكتائب مؤخراً ولاءها لـ"جبهة النصرة"، التي تم كسر شوكتها وتم طردها من المدينة في شهر تموز عام 2013 على يد "وحدات حماية الشعب"، ليبقى قسم مع الجبهة، والقسم الأكبر مبايعاً لـ"تنظيم الدولة الإسلامية" الذي بدء باستهداف المدينة من أطرافها.
ورغم أن جميع الكتائب كانت من لونٍ واحد، لكن هذا لم يوصل الأهالي بوصفهم وتسميتهم "كتائب عربية"! تقوم بتهجير الأهالي! مدركين أن أي حديث كهذا سيشعل فتيل صراع في المنطقة، لم يتوانَ النظام على خلقه دائماً بزَرعِ الحساسيات والتعامل بشكل تميزي مع الجميع من خلال منح العرب والمسيحين الامتيازات وتسليمهم المسؤوليات وحرمان الكرد مثلا.
ردة فعل الناشطين العرب، واتهام "وحدات حماية الشعب" تارةً و"حزب الاتحاد الديمقراطي" تارةً أخرى، وثم الكرد عامةً بتهجير العرب، خلق جواً من المشاحنة بين السوريين، وأقاويل بأن الكرد يعملون على تشكيل دولتهم أو إدارة خاصة بهم، برغم أن مشروع "الإدارة الذاتية" القائم، لا يدل على أي مشروع قومي، لكن هذا الأمر لم يكن كافياً لكي يقتنع الكثير من المثقفين والسياسيين العرب السوريين، الذين أساساً لم يتوانوا عن اتهام الكرد بالانفصال، وأن من يدعمهم في ذلك هي "قوى التحالف الدولي".
إن محاولة المثقفين الكرد التصدي لتلك الاتهامات، لم تأت من باب الدفاع عن الجهة المسيطرة على المنطقة، فالكثير من المثقفين والسياسيين الكرد لا يتفقون مع فكر "حزب الاتحاد الديمقراطي" والإدارة الذاتية التي شكلها (المكونة من كرد وعرب ومسيحين)، بل يقفون عليها ويشيرون إليها، لكنها أخطاء لم تصل لحد شكل التهجير القسري أو التطهير العرقي!
رواية تهجير العرب على يد المقاتلين الكرد، أمرٌ لا يمكن جزمه بالروايات والأقاويل فقط، من هنا لم يستطع أحد اثباته بدلائل توثيقية، كما لم يُقنع الكرد أحد بعدم وجوده، ليُحال الأمر إلى البحث الدقيق، والأدلة والقرائن العلمية في مجال التوثيق، تكون النتيجة محاسبة الفاعل والجاني كان من يكون، أو محاسبة المروجين ونبذهم في حال عدم صحة الاتهامات.
لقد كسر تحرير منطقة "تل أبيض" وبلدتي "سلوك" و"عين عيسى" جدار الفصل بين منطقة الجزيرة السورية والمحافظات السورية الأخرى، فوجود المنطقة بيد "تنظيم الدولة الإسلامية" منذ عامين، شكل فصلاً جغرافياً حقيقاً بين المدن الكردية والمحافظات الأخرى، لكن بعد تحريرها، عاد شريان الحياة وعادت وحدة الحال السورية.
الصراع العربي- الكردي الدائر مؤخراً لن يكون فيه رابح، بل إن الاستمرار فيه سيجلب الويلات للمنطقة، وربما ينتج عنه حساسيات على الصعيد السوري العام، الأمر الذي يتطلب عقلانية وحكمةً من الجميع، بالابتعاد عن التراشق بالاتهامات، والبحث عن الحقيقة. ففي حال وجود نزوحٍ مؤخر بسبب المعارك الدائرة والاشتباكات، تمت تسميته تطهيراً عرقياً، فإن النزوح السابق أواخر عام 2012 أيضاً يعتبر تطهيراً عرقياً!
*مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة