النخبة السورية بين الجولاني وعلوش

النخبة السورية بين الجولاني وعلوش
القصص | 11 يونيو 2015

أمام ما صرّح به زعيم جبهة النصرة السورية "أبو محمد الجولاني" لقناة الجزيرة تنبثق أسئلة كثيرة نكتشف متأخرين أنه تأخر البحث بها أو إطلاقها، ما يؤدي بدوره إلى إطلاق أسئلة أخرى تسأل عن سبب هذا التأخر وظروفه في الحالة السورية.

الأسئلة الأولى تتعلق بالعقل النظري للثورة الذي ينتج نظرية للثورة معجونة بخصوصية الحالة السورية. فإذا كان لكل ثورة في التاريخ "عقلها" الفاعل الذي يغدو رمزاً من رموزها لما يقدم من فكر ينتج من تلاقح العنصر البشري المناضل مع واقع معقد في ظل وعي بالعالم وبطبيعة السلطة وتحولات البشر، ليوضع في خدمة المقاومة البشرية وهي تخوض نضالها، مصححا ذاته على ضوء تحوّلاتها وإنجازاتها وإخفاقاتها لحظة بلحظة، ما يتيح له وضع التكتيك المتغيّر في إطار استراتيجية طويلة الأمد، تتيح التراجع عن الخطأ قبل الوصول إلى الكارثة التي نشهدها اليوم، فالثورة بدأت بـ"واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"، والمطالبة بـ"دولة مدنية" بقيادة الكثير من الشباب والنخب التي كانت "واعدة"، لتنتهي أمام "أبو محمد الجولاني" و"زهران علوش" الذين يبشروننا بـ"حماية الأقليات" و"دولة الخلافة" أو "دولة إسلامية حضارية" لن تكون أكثر من نسخة كاريكاتورية عن دولة البعث التي اختزلت السوريين إلى عروبة ضيقة، في حين يأتي خطاب اليوم ليختزلهم بمسلمين في زمن "الهويات القاتلة"!.

لم وصلنا إلى هنا؟ ولم لم توقف الثورة انحرافاتها؟ ولم لم تنتج فكرها النظري؟ وأين مفكريها؟ ولم يلتحق "مفكروها" هذا الالتحاق الذيلي بحركة إسلامية جهادية لا تعد إلا بالاستبداد؟ أليس من طريق ثالث حقا، أم فات الأوان؟

جملة الأسئلة الثانية، وهي الأكثر إقلاقا: تتعلق بأسباب غياب هذا العقل النظري للثورة أو تأخر بروز عملية النقد هذه؟

انطلاق الثورة من القاع الاجتماعي بعيدا عن أية أحزاب سياسية أو قوى منظمة، قد يكون مدخلا مناسبا لمقاربة حال الطلاق بين النخب والشارع، الذي فعل فعله السلبي في الثورة السورية. وليس الطلاق هنا بانضمام المثقف للثورة إذ انضم كثيرون وبشكل مبكر، بل بعدم معرفته بقوى القاع السوري وطبيعة وعيها ورد فعلها في الأزمات في مستوى أول، فانساق وراء الجموع معطلا عقله ووعيه القاصر، مفترضا قدرة الجماهير على السير في طريق الثورة طويلا ودون انحراف.

وإذا عرفنا أن النخبة كانت مقصية هي الأخرى عن العلاقة مع الواقع طيلة سنوات الاستبداد الذي فتك بها تعذيبا وقتلا وسجناً ونفياً، لتنشأ "ثأريات" كثيرة عطلت قدرة العقل على التفكير الصحيح في كثير من الأحيان، وهو ما تجلى بعقلية "إسقاط النظام بأي شكل من الأشكال" وعبر الاستعانة بأية أدوات (النصرة، القاعدة، الإسلامويون، منشقون..) بدلاً من إسقاط النظام بدلالة الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية، سندرك أنها تحولت (النخبة) بطريقة ما إلى "شارع" يبتغي من يقوده أيضاً، فقادت القليل ممن آمن بها للضلال، في حين اتجه "الشارع الثوري" نحو "الأدوات" التي أراد هؤلاء الاستعانة بها، لنكون أمام عقل عاجز عن فهم طبيعة مجتمعه وتنوعه وقدرة البشر فيه على استخدام العنف، واحتضان التطرف والإرهاب أيضاً.

وفي مستوى ثان، سجلت النخبة عجزها عن فهم طبيعة النظام الدولي وعلاقاته القائمة على المصلحة لا العدالة وحقوق الشعوب، وطبيعة النظام الإقليمي بما في ذلك الدول الداعمة للثورة والتي لها مصالح تبحث عن تحقيقها قبل أي شيء آخر، بدءاً من إبعاد الربيع عن أراضيها، وليس انتهاءاً بكسر إيران إقليمياً، مروراً بوأد أي خيار ديمقراطي في المنطقة، لأن وجود واحة ديمقراطية يؤثر على كل الصحراء فما بالك بواحات! 

وفي مستوى ثالث عجزت النخب عن فهم دور الإعلام لكونه أصبح في كل العالم اليوم مجرد أداة لتحقيق أجندة معينة لكل حكومة أو صاحب مصلحة أكثر مما هو أداة لنقل الحقيقة التي باتت تقولها كل وسيلة إعلام بما يناسبها. وشكل غياب العقل المنظر للثورة هنا والتحاقه بهذا الإعلام، مادحا إياه أحيانا ومبررا خطابه أحيانا، إلى إعطائه شرعية بنظر الشارع، أي كان المثقف الجسر الذي عبر عليه الإعلام ليصل الشارع ففعل فعله فيه، مساهما (إلى جانب أدوات أخرى طبعا، سبق الإشارة إلى بعضها) في تضليل الشارع ودفعه في مسارات الأسلمة والتطرف وقبول أبو محمد الجولاني وأشباهه كجزء من الثورة، لنصل ما وصلنا إليه اليوم.

إن قراءة ما سبق على ضوء تعاطي النخبة السورية معها، يبين لنا عقم هذه النخبة، وعدم قدرتها على أن تكون قائدا أو منظرا أو حتى مرشدا، والأمر يعود في جزء منه إلى غياب الأحزاب السياسية بالمعنى الفاعل للكلمة، لأن أحد مهماتها هو التنظير وخلق النخب التي تجد نفسها وسط حاضنة حزبية تؤهلها لأن تنطلق من الحزبي الضيق إلى العام الواسع في الأحداث الكبرى التي تتطلب رأيا واضحا وصريحا بما يحصل.

وإن تأخر الأحزاب السورية التقليدية كافة عن إعلان تأييدها الرسمي للثورة يبيّن مدى العقم الحاصل هنا، الأمر الذي يعني أننا أمام مستقبل كارثي ينتظر السوريون، فلا قوى وطنية مؤهلة لقيادة التغيير ولا الاستبداد باقيا بأي حال، ليخلق فراغ يملأه أبو محمد الجولاني وزهران علوش وأشباههم، إذ تتوزع النخب السورية بين مطبلين لهم لأنهم "يحررون" البلاد من رجس الاستبداد، لصالح دولة "الجزية" و"حماية الأقليات" و"إرسال الدعاة" للخارجين عن الدين الواحد! أو شاتمين لهم لأنهم خذلوا السوريين بعد أن وفروا لهم كل الأرضية اللازمة للحال الذي وصلنا إليه.

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".

 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق