مقالات الرأي | راقب حسن نصر الله تقدم جنود الخليفة من الرمادي في العراق إلى تدمر في سوريا، وساءه كثيراً أن عين البغدادي باتت تقترب من القلمون حيث يحاول حزب الله فرض سلطته. ثم نظر إلى أبو محمد الجولاني وهو قادة جيش الفتح الرئيسيين في شمال سوريا، وإذ بالأخير يأخذ إدلب ثم جسر الشغور ويأخذ أريحا وربما يتجه نحو حماه وقد يلعب دوراً هاماً في حلب أيضاً. ثم نظر إلى غوطة دمشق الشرقية التي يسيطر عليها جيش الإسلام وزعيمه زهران علوش وهو السلفي أيضاً فإذا به يخزن الأسلحة للاستيلاء على دمشق أو لرد أي هجوم عنها ومحاولة تسويق نفسه كأحد زعمائها القادمين، وما أزعج السيد كثيراً الحلف السعودي التركي القطري الجديد والداعم لجيش الفتح! في المقلب الثاني تتوافد التوابيت إلى الضاحية الجنوبية حيث يختفي نصر الله، وتكثر أعداد المعطوبين والجرحى في المشافي التابعة لحزب الله، ومعها تتصاعد الاحتجاجات الشيعية ضد التورط الكارثي في سوريا.
هذا المشهد أصاب السيد وهو يتوهم أنه بمرتبة النبوة بالجنون، ودار بخلده وتحت عمامته التابعة لولي الفقيه كما يقول هو عن نفسه: هل يعقل بعد أربع سنوات من القتال في سوريا أن النتيجة هزائم وانحسار لمواقع النظام وقتلى لخيرة مقاتلي حزب الله، واحتمال سقوط النظام أيضاً. لم يستطع تمرير كل هذا، فأطلق ثلاثة خيارات لأنصاره في ما يسمى "يوم الجريح المقاوم" لأنصاره، أولاً أن نقاتل أكثر من السنوات الأربع الماضية، وثانياً أن نستسلم للذبح والنساء والبنات للسبي، وثالثاً أن نهيم على وجوهنا في بلدان العالم ذليلين من نكبة إلى نكبة، وهناك من قال أن السيد تكلم عن خيار رابع وهو مبايعة التكفيريين.
الخيار الرابع هو لحث أنصاره على التفكر بالخيارات الثلاثة السابقة وضرورة التعبئة للاستمرار في الحرب ضد الشعب السوري، سيما أن ولي الفقيه حذره بدوره أن معركة سوريا لا يجوز أن نخسر فيها، فإن خسرناها لا يمكننا الانتصار لا في اليمن حيث الحوثيين يتراجعون ولا في العراق حيث الإخفاقات تتوالى، والأمريكان ينافسوننا بقوة فيه، وهناك الخليج الذي يرفض مشروعنا الإقليمي بالكامل ويقدم نفسه كمشروع مواجهة كما ظهر مع عاصفة الحزم.
إذاً خيارات حسن نصر الله وحزبه وهو المدعوم من دولة ولي الفقيه منذ تشكله وإلى الآن محددة ودقيقة ولا بد أن تصبح معلنة كمعركة مذهبية، وبلغته: هي معركة وجودية وامتداد لمعركة صفين ويجب أن نربحها بأي شكل من الأشكال.
حسن نصر الله بهكذا خطاب، يرى الشعب السوري بأكمله عدواً له، ويحاربه منذ أربعة سنوات، أي منذ بداية الثورة في 2011، وإن عدم قدرته على المواجهة وفق الخطاب القديم يستدعي أن يكشف عن وجهه المذهبي بالكامل، وذلك لحث أنصاره على التعبئة العامة، والتي لوّح بها، وقد يعلنها لاحقاً، فجنود النظام متهالكين ومهزومين، وبقية المليشيات الطائفية التي أتت من العراق وغيره ينسحبون، نظراً لرؤيتهم أن هذه الحرب لا يمكن الانتصار فيها وأجورهم تتناقص وقتلاهم يتضاعفون.
حسن نصر الله أمام معادلة صعبة، فالنظام يخسر والأوامر الإيرانية بالقتال واجبة التنفيذ، وبالتالي لا بد من التعبئة العامة. ولأن الأمر أصبح مكروهاً، والانتقادات تزداد من الطائفة الشيعية وحتى من أوساط حزبه، وهناك "شيعة السفارة" كما أسماهم حسن نصر الله، والذين يرفضون كل تدخله في سوريا ومنذ أربعة سنوات ويرفضون تعطيله لانتخاب الرئيس اللبناني أو توريط الجيش في معارك عرسال، فإنّه يعتبرهم أعداءً له ولن يهتم لهم ويعتبرهم خونة ويجب اعتبارهم ضمن الحلف العدو، أي مع التكفيريين والداعمين لهم!. هذا مفردات جديدة تماماً، وهي تؤشر إلى قوة المعارضة في الطائفة الشيعية ذاتها والرافضة لاستمرار حزب الله في سوريا؛ حسن نصر الله أمام كل ذلك لا يمكنه التراجع، ويتقدم بخطاب ناري ومذهبي خالص، ويفرض على الطائفة حسم خياراتها فإما معه ومع كل ما يقول، وإما فهم خونة. بذلك ينهي الجدل بين مناصريه ويرفض كل نقد داخلي من أنصاره، ويحضّر الجميع للتعبئة العامة، وبذلك يقول أن هذه المعركة مذهبية خالصة، وقد تكلف "ثلاثة أرباع" شيعة لبنان ولكن لا بأس، فالمهم أن يعيش الربع المتبقي بكرامة ودون ذلك، أي يجب ربح المعركة في سوريا.
أغلب من قرأ خطاب حسن نصر الله في يوم "الجريح المقاوم" قال أن الرجل جنّ تماماً، وأنّ خطابه مذهبياً خالصاً، وهو يقود كل الطائفة الشيعية ولنقل أغلبيتها نحو حتفها النهائي، وبذلك يلغي السياسة والدولة اللبنانية والدبلوماسية بالكامل. النقد كان حاداً، وسمَّ كلمات نصر الله بالوجه الثاني للجهاديين، ويستقى من الخطاب ذاته لهم، أي استمراراً لمعركة صفين!. هذا النقد اضطر حسن نصر الله في خطاب "يوم التحرير" إي مساء يوم الأحد 24-5-2015 للتراجع عنه، والتذكير بأهمية دروس التحرير "الوطنية" في عام 2000 في لبنان، وضرورة نقلها إلى العراق وسوريا واليمن ودول أخرى، إي إلى دول عربية. خطابه هذا حدّد بأن هذه الدول تواجه تكفيريين داعش والنصرة وسواهم، ولكن لمن يوجه حسن نصر الله خطابه هذا؟ أليس للمليشيات الطائفية الشيعية أو الحوثية، إذاً الخطاب ذاته بيوم الجريح ولكن تحت مسميات "وطنية".
الحقيقي في خطابات حسن نصر الله هو خطاب يوم الجريح، ففيه عبّر عن مخاوفه الحقيقية، وتبدت المذهبية الطائفية واضحة المعالم، ودون أي تزويق وتحوير للمعاني الدقيقة للأفكار؛ أي هناك هزيمةً قادمةً للمشروع الإيراني لا محالة، وهي هزيمة لمشروع ولي الفقيه في سوريا واليمن وأغلب الظن في العراق، وربما سينحسر نفوذ حزب الله ذاته في لبنان.
هذه الخسارات، وتقدم جيوش الرجال الثلاثة المشار إليهم أعلاه، لا تترك للرجل الذي توهم أنه يقترب من النبوة إلا الجنون الكامل، أي التعبئة الكاملة والاستعداد للحرب المذهبية حتى النهاية.
ونضيف فكرة أخيرة، أن هذا التصعيد يحمل بعداً آخر، فالتعبئة العامة لا تتناقض مع ضرورة الحل السياسي، وتتضمن اعترافاً صريحاً بهزيمة النظام، وانتظار أي حل سياسي لا يستبعده من الحكم. ربما خطاب نصر الله والاستيلاء السلس لداعش على مدينة تدمر، وفتح معركة حلب من قبل داعش ضد جيش الفتح! تشكل حافزاً إضافياً لحث أوباما على التدخل وفرض الحل السياسي الذي لا يرفضه النظام وحلفه وفقاً لقراءتها هذه؛ ولكن وفي حال تأخر ذلك، فإن حسن نصر الله سيقاتل مدفوعاً باحتمالين إنقاذ النظام أو هزيمته وهزيمة حزب الله ذاته، وبذلك ينفذ الأوامر الإيرانية كاملة، ويكون جيشاً في خدمة ولي الفقيه الإيراني. وبذلك أيضاً يحاول هو والبغدادي إنقاذ النظام من أزمته الحالية والتي تقول تقارير كثيرة أنها أزمة ما قبل السقوط.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".