إن تأمل الطريقة التي "تلبي" بها داعش "أمنيات" و"رغبات" النظام السوري تطرح أسئلة كثيرة عن ماهية هذه "الداعش" التي تحقق للنظام كل ما يرغب به، بدءاً من طريقة القتل وليس انتهاءاً بقتل الأقليات والصحفيين، فضلاً عن الهجوم على الآثار والسجون، أي كل ما يثير "غريزة" الغرب ويلفت انتباهه ويغذي "فوبيا" الآخر الإسلامي الإرهابي لديه، ناهيك عن طمس جرائم النظام السوري، التي كان تدمير معتقل تدمر "أصنصها"، فداعش هنا تلبي الرغبات المستقبلية أيضاً، لمنع تحوّل المعتقل إلى متحف حرية يدين زمن الاستبداد وهو يتطلع لزمن حر، كما حال معتقل جزيرة روبن في جنوب إفريقيا الذي أضحى متحفاً.
إن التأمل في داعش من هذه الزاوية، قد يكون مدخلاً للبحث في طبيعة "الداعشات" الموّظفة أمنيا وإقليميا ودولياً تحت ستار داعش الأساسية، بعيداً عن نظرية المؤامرة ومشتقاتها، إذ لاشك أن التنظيم الذي ولد في العراق موجود ونما وتوّسع خلال أربع سنوات ونيّف،مستغلا ما وفرته الساحة السورية بكامل تعقيداتها وتشابكاتها من أرضية صالحة للتمدد.
ولادة داعش الأصل، شكلت متكأ لكل راغب في التدخل في سوريا ليكون له داعشه التي تقوم بالأعمال القذرة، التي لا تستطيع قواه النظامية أن تقوم بها عادة، وهي سمة مرادفة لكل الحروب والأزمات عموماً، حيث تعمل الأطراف الفاعلة في حرب ما على تشكيل تنظيمات سرية تقوم بالمهمات القذرة، ليس لأن قواها لا تقوم بهذه الأعمال، إنما خوفاً من المحاسبة ولزيادة التضليل ومنع تكوّن صورة واضحة عما يحصل، وكي لا "تشوّه" تلك الأعمال سمعتها "الوطنية" أو "الدولية" أو مستقبلها، ففي سوريا الثمانيات تشكلت "سرايا الدفاع" التي حلت بمجرد ما انتهى دورها، بمواجهة "الطليعة المقاتلة" التي يتبرأ منها الإخوان اليوم، وهو ما تكرر اليوم في صيغ الدفاع الوطني وميليشيات البعث وكتائب أبي الفضل العباس، مقابل ميليشيات تغيّر أسماءها وصفاتها وأجندتها كل فترة في الضفة المقابلة.
ولعل قيام النظام في الفترة الأولى من الثورة بالخطف تحت اسم "العصابات المسلحة" يعطي صورة واضحة عن الأمر.
توّفر داعش اليوم بعد أن حققت سطوعاً إعلامياً ساهم بأن تصبح رهابا عالميا فرصة الخوض القذر في الساحة السورية تحت غطائها، فداعش النظام تعمل في ثلاثة اتجاهات، أولها تنفيذ الجرائم التي لا تستطيع قوى النظام القيام بها لأنها تناقض السردية التي يبرر بها وجوده، فشعار "حماية الأقليات" يدفعه إلى التروي قبل ارتكاب أي جريمة علنية بحقها، لهذا نجد داعش تتقدم نحو السويداء من جهة، وتقتل موظفي الدولة والأقليات لتبقى كتلهم الأساسية مشدودة له من جهة أخرى.
ثانيها: تحقيق سردية النظام من كونه يواجه إرهاباً لا غير، وهو ما يتحقق من تنفيذها خطوات تحقق اهتماماً إعلامياً ملفتاً. بل إن النظر إليها من هذه الزاوية يبين أن أغلب ما قامت به من هذا النوع: طريقة القتل، إعدام الإعلاميين الغربيين، الدخول إلى كوباني وحقول النفط وتدمر التي كانت كافية لتذكير العالم بما فعله الطالبان بالآثار حين وصلوا السلطة، فداعش هنا تقدم للنظام ما يريد عبر استدرار "عطف" العالم لإقناعه بأن إجرامه لا شيء أمام إجرام داعش!
وثالثها، يتعلق بشد عصب الطائفة العلوية خلفه، فمع تقدم داعش، واعتبار كل المعارضة المسلحة "داعش" لا يبقى أمام هذه الكتلة البشرية من خيار سوى الوقوف خلف النظام، وتقديم المزيد من الضحايا لخدمة بقائه. وإن تغيّر الإيديولوجية التي يسوّقها النظام لهم في كل مرحلة من مراحل الصراع تبين ذلك، بدءاً من الدفاع عن الدولة لا النظام، في المراحل الأولى إلى حماية الساحل مؤخراً.
لتركيا أيضا "داعشها" التي لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات "حزب الاتحاد الديمقراطي" تشكيل إدارة ذاتية كردية قد تكون مدخلا لدولة كردية بدأ التفكير بها، فداعش هنا موّجهة ضد الأكراد وضد أيّة فصائل تعارض الرؤية التركية في الشمال السوري.
دول الخليج وعلى رأسها الرياض، تتركز استراتيجيتها الأهم على إجهاض الربيع العربي بأي ثمن من الأثمان، وهو ما تجلى في محاولة قطر قطفه لصالح الإخوان، وسعي الرياض لتثبيت عرش الدكتاتوريات مرة أخرى كما في مصر واليمن. وأسهل طريقة لذلك إغراقه بالتطرف والحرب الأهلية والجرائم، ليكف عن كونه ربيعاً مغرياً لشعوبها بالانتفاض ضدها، ناهيك عن استغلالها هي الأخرى داعش على طريقتها في الداخل السعودي، وهو نفس الأمر الذي تفعله طهران أيضا بوقوفها خلف استراتيجية النظام السوري من جهة، وبما توفره داعش لحلفائها في العراق من آداة للهيمنة على السلطة وتشريع تكوين الميليشيات الشيعية على حساب الدولة كما نرى في حالة الحشد الشعبي الذي يقاتل إلى جانب الجيش العراقي، بكل ما يحمله من طائفية صريحة، لينفذ الأعمال "القذرة" والاغتيالات التي لا يراد لمؤسسات السلطة أن تتورط بها، ولعل ما قيل عن "حشد شعبي" في لبنان، بالتوازي مع تهديدات أطلقت لـ "شيعة السفارة" مؤشرا على ذلك.
أبعد من الحالة السورية، يلقي الأمر الضوء على كيفية نمو هذه التنظيمات بين أحضان العولمة وأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، منتقلة من مكان (أفغانستان) إلى آخر (نيجريا، سوريا، العراق..) لتحقق "النظام العالمي الجديد"، فهل نراها غدا في محيط روسيا والصين؟ وهل ما قرأناه عن انضمام قائد القوات الخاصة في الشرطة الطاجيكية لداعش مؤشرا في هذا السياق؟.
ما سبق، يوضح أحد أسباب "القوة" التي تنسب لداعش، فمن أين لتنظيم أن يواجه تحالفا دوليا ودولا إقليمية لو كانوا يحاربونه حقاً؟
ستنتهي داعش حين تصل التسوية السورية مرفأها النهائي ويتشكل النظام الإقليمي الجديد، وإلى ذلك الحين: ثمة داعشات باقية وتتمدد، لتنتقل إلى مكان آخر بعد ذلك!