هزت الثورة السورية واقع السوريين في أوروبا بعنف شديد، فغيرت الكثير من المعطيات والاهتمامات والتوجهات، بل غيرت في طبيعتهم، وواقعهم ومستقبلهم، وكلها أمور، لا تحتاج الى نقاش كبير، وإن تطلبت مقاربة لبعض جوانبها، ورؤية ما يمكن أن يصير إليها مستقبل السوريين.
يعود الوجود السوري في أوروبا الى عقود طويلة، والجزء الأساسي من السوريين هناك، هاجروا تحت أسباب متعددة ومتداخلة، اختلط فيها الاقتصادي مع الاجتماعي، والسياسي مع الثقافي. تماماً مثل غيرهم من مواطني البلدان العربية، التي حكمها الاستبداد أو عاشت ظروفاً سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية صعبة، دفعت بعض مواطنيها للبحث عن أماكن أخرى للعيش، وفي سبيل مستقبل مختلف لهم ولعائلاتهم بعيداً عن مسارات التطور الصعب في بلدانهم الأصلية، التي تندرج سوريا في مقدمتها خاصة بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة فيها عام 1970، والتي وضع فيها أسس الدولة الشمولية -الدكتاتورية معتمداً على المؤسستين الأمنية والعسكرية، وأطلق لهما العنان في السيطرة على كل مظاهر الحياة السورية ومؤسساتها.
وبطبيعة الحال، فقد امتد أثر النظام الشمولي - الدكتاتوري إلى واقع الجاليات السورية، فتم ربط أغلبها والفعاليات الرئيسية فيها بالنظام الحاكم عبر السفارات السورية ورجالها الأمنيين. وجرى غالباً الاستجابة للمصالح المحدودة لبعض نخب الجاليات من جانب النظام، لقاء دور الأخيرة في تطويع الجاليات وربطها معه، وقيامها بتأييده والترويج له، والاستجابة لاحتياجاته، طالما أمكن تنفيذ تلك الاحتياجات، وكان ذلك هو الأساس الذي قامت به علاقة الجاليات السورية في أوروبا وغيرها مع نظام الأسد سواء في عهد الأب أو في عهد خليفته الابن.
غير أن قيام الثورة السورية في 2011، غيرت أساس تلك العلاقة، والسبب الرئيس كان طبيعة الثورة السلمية، وشعاراتها المطالبة بالحرية والتغيير السلمي والمشاركة، وتكرس سبب تغيير العلاقة من خلال رد النظام برفض أي حل سياسي، والذهاب الى العمق في رد عسكري – أمني أساسه القتل والاعتقال والتدمير والتهجير والذي تصاعد بصورة وحشية، فأخذت الجاليات تتحرك لنصرة ثورة السوريين وتأييد مطالبها، ولاشك أن مواقف الدول الأوروبية، ساهم في تعزيز التغيير في موقف الجاليات.
لعبت الجاليات ولاسيما في بلدان غرب أوروبا دوراً في تقديم دعم إعلامي وإغاثي متعدد الأوجه للثورة، وشارك بعض شخصياتها في الفعاليات السياسية والمدنية للثورة عبر حركة المعارضة السياسية والأنشطة المدنية، قبل أن تنشط بعض أوساط الجاليات في استيعاب ومساعدة المهاجرين الجدد الذين أخذوا يتوافدون الى البلدان الأوروبية هرباً من الجحيم الذي نشره النظام في سوريا وصعوبات الاقامة والعيش في بلدان الجوار السوري.
وشكل الوافدون الجدد من المهاجرين السوريين كماً بشرياً كبيراً، ونوعياً مختلفاً من الفئات العمرية الشابة والخبرات المتعددة ولاسيما الاختصاصيين من أطباء ومهندسين وتقنيين، مما يعزز واقع وحضور الجاليات السورية في بلدان أوروبا، رغم ما يعانيه الوافدون الجدد من مشاكل تبدو مؤقتة، تتعلق بالإقامة والعمل والدراسة، وهي ستأخذ طريقها للحل في سياق عملية استقرار الوافدين واستيعابهم في المجتمعات الجديدة، يستقر البعض بنتيجتها، وقد يكون بإمكان البعض العودة الى سوريا بعد أن يستقر وضعها، وتخرج من أوضاعها الكارثية، التي صارت إليها.
التحديات التي تواجه الوافدين الجدد والجاليات السورية كلها، تتجاوز مشكلة استيعاب الوافدين وهي قضية معاشية الى أمرين اثنين من طبيعة سياسية، أولهما انشغالهم بأوضاع بلدهم، خاصة وأن أغلبهم جاء من عمق الثورة وفعالياتها ومن دائرة التعاطف معها ودعمها بالنسبة لأغلب المقيمين، والثاني هو مواجهة التطرف الذي ضرب الواقع السوري، فولد تشكيلات وجماعات متطرفة ايديولوجياً وعسكرياً وخاصة تنظيمات "داعش" و"النصرة" المحسوبة على تنظيم القاعدة.
ويطرح التحديان الأخيران اعباءهما على الجاليات السورية في محيطها الأوروبي، ليس فقط في إرسال رسائل واضحة إلى ذلك المحيط، تؤكد رفض التطرف والإرهاب في محتوياته وممارساته، وفي تأكيد توافقها مع القيم الإنسانية العامة السائدة في تلك المجتمعات، واستعدادها على العيش في ظلالها، والتعامل معها بصورة إيجابية ومتفهمة بالحد الأدنى. بل إن المطلوب، يتجاوز ما يطرحه وجودها في تلك المجتمعات إلى علاقتها بالواقع السوري وخاصة لجهة تواصل دعمها للثورة، وتأكيد طبيعتها باعتبارها ثورة شعبية، انطلقت من اجل قيم انسانية ابرزها الحرية والعدالة والمساواة، وأنها أبعد ما تكون عن الدكتاتورية والسياسة الدموية التي يتبعها نظام الأسد، والتي تشاركه فيها جماعات التطرف والارهاب من "داعش" و"النصرة" وغيرهما.
هذه التحديات، تمثل تحديات شخصية لكثير من السوريين في المجتمعات الأوروبية، لكنها تمثل أيضاً تحديات عامة لكل السوريين، ينبغي الاشتغال فيها وعليها، وهذا يطرح عليهم مهمة تنظيم وجودهم وجهودهم من أجل تحقيق نجاح جدي في مواجهة هذه التحديدات، وبناء مستقبل ومكانة أفضل لهم ليس في مجتمعاتهم الأوروبية، إنما ايضاً في علاقاتهم مع بلدهم وشعبهم من أجل إنهاضه وتقدمه الذين سيكون للسوريين في المهاجر دور مؤكد فيهما.
*مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".
*تم نشر هذا المقال بموجب اتفاقية الشراكة بين "روزنة" و"هنا صوتك".