مما لا شك فيه أن الحرب الطاحنة في سوريا حصدت كماً هائلاً من الضحايا، قتلاً، وإعاقة، واعتقالاً، واختفاءً قسرياً وتشرداً ونزوحاً، ناهيك عن تدمير البنية التحتية للبلاد، حيث تقارب نسبة الدمار 60% من مساحة الوطن السوري، مدن كاملة أصبحت خراباً ويباباً. وتقع المسؤولية المباشرة في كل تلك الجرائم على النظام السوري كونه النظام الحاكم، والرئيس بشار الأسد يتربع على قمة المسؤولية القانونية والأخلاقية، مع شركائه من المجموعات المسلحة التي تقاتل معه أو بعضها بعضاً.
يتساءل الكثيرون عن إمكانية محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، وما هي فرص إقامة محاكم تعيد الحقوق إلى أصحابها، وتعاقب مرتكبي تلك الجرائم. ويظن المرء أن مبدأ المحاسبة هينٌ، ولا يدري أن العدالة تتطلب جهداً كبيراً على مختلف الأصعدة، فتبداً بتوثيق الجرائم توثيقاً دقيقاً وفق المعايير الدولية، وكذلك تحديد مرتكبي تلك الجرائم، وتوجيه الاتهامات للضالعين فيها، وقبل كل ذلك إيجاد المحكمة المناسبة لتنفيذ العدالة فيها، كما أن الإرادة السياسية هي العامل الضامن والوحيد لتنفيذ تلك المحاكمات.
معوقات المحاسبة والعدالة محلياً
لأن النظام السوري ما يزال حاكماً على البلاد، ولو أن سيطرته الفعلية قد لا تتجاوز دمشق وبعض المدن الساحلية، إلا أنه قانونياً ينظر إليه على أنه الحاكم، وحكومته هي المسؤولة عن النظام القضائي والتشريعي والتنفيذي. ولا يعني أبداً إخلاء المسؤولية في الجرائم المرتكبة على أي بقعة من التراب السوري، حتى وإن كانت تلك المناطق خارج عن سيطرته الفعلية. فالرقة وإدلب والمناطق الكردية من البلاد، ما تزال ضمن خارطة البلاد، فلم تعلن استقلالها كي ينظر إليها كأراضٍ خارجة السيطرة القانونية للدولة السورية برئاسة بشار الأسد.
ولاستحالة أن يقوم النظام السوري بمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في البلاد، من قبل جيشه أو الميلشيات التي تقاتل إلى جانبه، أو تلك التي تقاتل بالضد منه. كون المتهم الرئيس هو النظام، ويدرك ذلك بدلالة واضحة حيث هناك أدلة وقرائن قيمة، تدل على مسؤولية النظام عن تلك الجرائم.
المحكمة الجنائية الدولية والمعوقات السياسية
تأسست المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. ويقع مقرها الرئيس في لاهاي بهولندا، وهي تختلف تماماً عن محكمة العدل الدولية، التابعة للأمم المتحدة، والخاصة بفض النزاعات بين الدول.
تعد المحكمة الجنائية هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة، من حيث الموظفين والتمويل، وقد تم وضع اتفاق بين المنظمتين يحكم طريقة تعاطيهما مع بعضهما من الناحية القانونية. وقد فتحت المحكمة الجنائية تحقيقات في أربع قضايا: أوغندة الشمالية وجمهورية الكونغو الديمقراطية والجمهورية الأفريقية الوسطى ودارفور السودانية.
لا تقل المحاسبة الدولية صعوبة عن المحاسبة المحلية، لأسباب كثيرة أبرزها أن الجمهورية العربية السورية ليست موقعة على ميثاق روما، وهو المعاهدة المؤسـسة للمحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 17 تموز 1998 ودخلت حيز التنفيذ 1 تموز 2002 وتقتصر قدرة المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد هذا التاريخ.
على الرغم من أنه وصفت لجنة التحقيق الدولية الجرائم المرتكبة في سوريا، بأنها جرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وأوصت غير ذي مرة بتحويل الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن هذه التوصيات تتوقف عند عتبة مجلس الأمن الدولي، صاحب السلطة الوحيدة في تحويل هكذا قضايا إلى محكمة الجنايات الدولية. حيث ستواجه روسيا والصين أي توصية من هذا القبيل بالرفض، وستستخدمان حق النقض الفيتو كما فعلتا مرات عدة.
وتعد جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، من أبرز اختصاصات هذه المحكمة الجنائية الدولية. وتستطيع المحكمة النظر في الجرائم في الحالات التالية:
* إذا كان المتهم بارتكاب الجرم مواطناً لإحدى الدول الأعضاء (أو إذا قبلت دولة المتهم بمحاكمته).
* إذا وقع الجرم المزعوم في أراضي دولة عضو في المحكمة (أو إذا سمحت الدولة التي وقع الجرم على أراضيها للمحكمة بالنظر في القضية).
* أو إذا أحيلت القضية للمحكمة من قبل مجلس الأمن.
كما يحتاج تقديم دعوة للمحكمة 100 ألف تصديق، من أشخاص وقعت عليهم جرائم عنصرية، أو إبادة جماعية، أو اضطهاد عرقي، أو مذهبي، أو جرائم أخرى مشابهة.
محكمة خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا
لاستحالة محاسبة المسؤولين عن الجرائم في سوريا محلياً، ولاصطدام أية توصية بتحويل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية عبر مجلس الأمن الدولي، هناك صعوبة كبيرة في إنشاء محكمة خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا. أسوة بالمحكمة الخاصة التي تنظر في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وجرائم الاغتيالات السياسية في لبنان. حيث يناط الأمر في إنشاء هكذا محكمة أيضاً بمجلس الأمن الدولي، ناهيك عن الإمكانات المادية الكبيرة اللازمة لإنشاء هذه المحكمة.
استعمال المحاكم الأوروبية
تناقش الأن بعض الدول الأوروبية إمكانية محاسبة مجرمي الحرب في سوريا في المحاكم الوطنية الأوروبية، وقد تم النقاش من قبل بعض ناشطي حقوق الإنسان السوريين في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، مع مندوبي بعض الدولة الأوروبية، حول إمكانية فتح المجال أمام محاكمها الوطنية، لمحاكمة منتهكي حقوق الإنسان ومرتكبي الجرائم في سوريا. إلا أنه أيضاً هناك صعوبة كبيرة في تنفيذ هذه المحاولة، وهي أنه لا توجد لتلك الدول أية صلاحية شرطية لاستحضار المتهمين وتقديمهم للمحاكمة. كما أنه قد تعارض هذه الدول هذا النوع من المحاكمات، وذلك لأسباب سياسية تتعلق بالتوازنات الدولية، التي تقوم بها الدول فيما بينها. ويبقى الاقتراح موجوداً طالما لا توجد حتى الأن أية اعتراضات.
تعد إسبانيا من الدول الأوروبية الرائدة في ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، حيث نصت تشريعاتها منذ سنوات على إمكانية ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة خارج حدودها. كما سعت بريطانيا إلى محاكمة وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، حيث أصدرت مذكرة اعتقال بحقها، بسبب الانتهاكات التي خلفها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2009.
دولة جديدة ومحكمة خاصة أو دولية
للصعوبات الآنفة الذكر يصعب محاسبة مرتكبي الجرائم في سوريا، بغض النظر عن الجهات التي ترتكب هذه الجرائم. يبقى فكرة الاستقلال بمنطقة جغرافية من سوريا (كالشمال السوري مثلاً أو المناطق خارج سيطرة النظام) وإعلان دولة مستقلة فيها، وتطلب عضوية الأمم المتحدة، ومن ثم تقوم هذه الدولة الوليدة بالتوقيع على ميثاق محكمة الجنايات الدولية، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت على أراضيها من قبل أية جهة كانت. أو تقوم هذه الدولة بإنشاء منظومة قضائية خاصة بها، وتعمل على إنشاء محكمة خاصة محلية، لمحاكمة مرتكبي مختلف الجرائم على أراضيها. لكن الأمر ليس سهلاً كما يبدو، إذ قد يجابه الأمر بمعارضة شعبية أو من قبل من المعارضة السورية نفسها، خشية تفكك الدولة السورية، وتحويلها إلى دويلات صغيرة.
باختصار في الوقت الراهن لا يمكن أبداً محاسبة أي مسؤول عن أية جريمة حرب أو إبادة جماعية أو جريمة ضد الإنسانية مرتكبة في سوريا، حيث المعوقات المحلية والدولية أكثر بكثير من إرادة السوريين في تحقيق العدالة.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر روزنة.