تعصف بالمنطقة عواصف عديدة كانت آخر تجلياتها "عاصفة حزم"، التي رحب بها الائتلاف الوطني السوري المعارض، فالمحاور والتحالفات التي انغمس فيها تقوم على أبعاد مركّبة، سياسية طائفية وقومية. وهو اليوم يستجدي حلفاءه من أجل "عاصفة حزم" أخرى في سوريh، تعينه على إنجاز المهمة التي تنطّح لها وفشل في القيام بشيء لتحقيقها: إسقاط النظام.
لا يمكن النظر إلى الحرب العراقية أو اليمنية بمعزل عن شقيقتهما السورية. ولا يمكن تصنيف خيارات القوى السياسية الفاعلة في المنطقة بمعزل عن الدوافع الاثنية والقومية. في ظل هذه العوامل المتشابكة والتي انعكست على الاصطفافات الشعبية وتأطيرها لابد للسوريين من الخروج من معمعة المحاور، ونتائج صراعاتها الكارثية التي يدفعون ثمنها.
منذ زمن ليس بالقليل تحوّلت الثورة السورية إلى حرب طائفية بامتياز، وحلّت المصطلحات العقائدية اللاوطنية محل شعارات الحرية والكرامة. كما أصبح العامل الإقليمي والدولي هو المحدّد لمسارات الحراك السياسي والعسكري في سوريا.
لقد ساهمت المعارضة بخياراتها في هذه التنيجة المأساوية، بقدر لا نقارنه بمساهمة النظام توخّياً للدقة. انتقلت هذه المصطلحات اللاوطنية إلى أدبياتها، بل كانت أيضاً عاملاً مهما في تحالفاتها. هكذا كان للتكتيك السياسي الوزن الأقوى في الحراك المعارض على حساب الاسترتيجية الوطنية.
نحن هنا ندّعي أن التخلي عن المبدأ لصالح الآلية البرغماتية كان أهم الأخطاء التي وقعت بها المعارضة، و نعزو ذلك لعدم تأصلها في الحراك السياسي من ناحية، ومن ناحية أخرى لضعف إمكانياتها ومقدراتها، وعن كلا العاملين يتحمل النظام المسؤولية الاساسية، فقد عمل خلال العقود الماضيه على تقّزيمها ومحاربتها حتى اقتلعها من جذورها فأصبحت مغرّبة و مستغربة.
تتقاطع في سوريا خطوط طول وعرض سياسية متعددة، نظراً لتنوعها الديمغرافي وموقعها الجيوسياسي، وهذا ما لم تعِه المعارضة منذ البداية. أود هنا استحضار تصريحات برهان غليون، في أواخر العام 2011، وكان كبير القوم في المجلس الوطني آنذاك، عندما قال: "سنقطع علاقاتنا بحزب الله وإيران وحماس إذا وصل المجلس الوطني إلى الحكم". للملاحظة، لم تكن إيران وحزب الله قد تورّطا آنذاك إلى حد كبير في المستنقع السوري.
إذن، دخلت تشكيلات المعارضة السورية منذ نعومة أظافرها سياسة المحاور، مجارية النظام في هذا. وأصبحت تراهن على المال الاجنبي والتدخل الغربي لإسقاط الأسد. رافق ذلك فشل مضطرد في كسب القاعدة الشعبية، ومنهم الأقليّات الإثنية (القومية والدينية والمذهبية)، التي تشكل قرابة نصف الشعب السوري، والتي أرعبها الجهاد العالمي، الذي صبغ الحراك السوري شيئاً فشيئاً.
لم تستطع قيادة المعارضة النأي بنفسها عن المظاهر المتطرفة منذ بداياتها، بل وآثرت الصعود ولو بالاتّكاء على بندقية "جبهة النصرة", وأخواتها، هذه الأخيرة التي لم تعترف قط بالمعارضة السياسية وتشكيلاتها. لعلكم تذكرون مقالات ميشيل كيلو والشيخ معاذ الخطيب في هذا الشأن. كما لم تستطع المعارضة اتّخاذ مسافة من الأجندات التركية والخليجية والغربية. هكذا كان تحالفها مع أنظمة استبداية فاشية وطائفية، محكّاً واختباراً لمصداقية نضالها الثوري.
بعد أعوام من الحرب في سوريا، والانتقال من فشل إلى فشل، لا تريد المعارضة السورية أن تتحمل مسؤولياتها أمام شعبها، ومازال النظام شماعة أخطائها. هذا ليس جلداً للذات، كما يحلو للبعض أن يسميه، فعلى المعارضة أن تتوقع كل شيء من النظام، وأن تكون خلاّقة ومبدعة في محاصرته لإسقاطه، وليس عليها التوقع منه مساعدتها في ذلك.
في هذا السياق نرى أن على المعارضة القيام بأمرين أساسين، لابد من الاستعجال في تحقيقهما. أولهما، العودة إلى مصدر الشرعية والقوة الحقيقية، أي الشعب السوري وتقديم خطاب ثقة له ليلتف حولها من جديد، وتسحب ما تبقّى من شرعية للنظام لازال يتمتع بها بين أنصاره. هذا أجدى من السعي المتهافت لإسقاط شرعيته دولياً، والتي تتعلق بالتحولات الجيوسياسية. فليست روسيا وإيران وحزب الله فقط من أبقى النظام في السلطة، بل نجاحه في الحفاظ على قاعدته من السوريين، وقد تفوّق على المعارضة في هذا، فترى بين جنوده وشبّيحته ألوان الطيف السوري كافّة، بينما يطغى على مقاتلي المعارضة لون طائفي واحد.
الأمر الثاني، العودة عن سياسية المحاور، فالحروب في المنطقة، في العراق اليمن، زادت من تمايز المحاور وأي محاولة للتماهي معها ستلقي بظلالها السلبية على ما تبقّى من الوحدة الوطنية السورية، وهي اليوم في أسوأ حالاتها. هذا يفرض النأي عن تلك الاصطفافات، والإبقاء على مسافه آمنة منها بالمعنى الوطني. لايتم هذا إلا باتفاق مكونات المعارضة أولاً على وثيقة عهد وطني جامعة تضع محددات وضوابط للعمل السياسي تحت سقف المصالح الوطنية السورية.
يقول انشتاين "لايمكن حل المشكلة بنفس العقول التى أوجدتها"، فكيف سيمكن لهذه المعارضة المقتلعة من جذورها القيام بهذه المهمة؟! هذا ما تحاول فعله منذ أربعة اعوام وتنتقل من فشل إلى آخر، فكل المؤتمرات واللقاءات التي بحثت في وحدة المعارضة، العامل الأساسي الأول لإمكانية إسقاط النظام بأيدٍ سورية، باءت بالفشل.
لعلّ الوقت قد حان ليفسح "الحرس القديم" من المعارضة الطريق لأجيال تتجاوز اغترابه وفشله، فهي وحدها القادرة على إبداع الجديد في معادلة الصراع السياسي على مستقبل سوريا.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر روزنة.