تبنّى البرلمان الأوروبي أخيراً قراراً يطالب تركيا بالاعتراف بأن المذبحة التي جرت قبل قرن من الزمان، على يد السلطنة العثمانية، وراح ضحيتها نحو مليون ونصف مليون إنسان أرمني، كانت "إبادة جماعية". وجاء القرار بعد أيام قليلة من استخدام بابا الفاتيكان للمصطلح نفسه.
المذابح التي ارتكبت ابتداءً من 15 نيسان (أبريل) 1915، لم تقتصر على الأرمن، إذ طاولت غيرهم من الأقليات العرقية والدينية من رعايا الإمبراطورية العثمانية، كالسريان والشركس وغيرهم. غير أنّه لكون النسبة الأعلى من الضحايا كانت من الأرمن، درج الكتاب والباحثون على تسمية تلك المقتلة الرهيبة بمذابح الأرمن.
على أنّ المجازر تلك ليست الوحيدة التي لحقت بالأرمن في ظلّ دولة "الخلافة العثمانية". إذ تعرّضوا في مراحل مختلفة لبطش العثمانيين، الأمر الذي ساهم في تعزيز النزعة القومية لديهم. لعل هذا ما دفع مسؤولاً أوروبياً للقول: "ظل يقال للأرمن وعلى فترات طويلة إنهم يتآمرون حتى أصبحوا متآمرين في نهاية الأمر، وظل يقال لهم لفترة طويلة بأنه ليس لأرمينيا وجود حتى أصبحوا يؤمنون بوجودها".
انتشرت الروح الوطنية الأرمنية باكرا، بفعل نشاط عدد من المثقفين الأرمن المتحمّسين المقيمين في أوروبا وروسيا، وسرعان ما انتقلت إلى الإمبراطورية العثمانية. كما شجّع الروس الأرمن للوقوف معهم خلال الحروب المتكررة بين روسيا والدولة العثمانية، ولاسيما خلال الحرب التركية – الروسية (1877 – 1887). حينها قاتلت مجموعات أرمنية إلى جانب روسيا، وتبع ذلك أعمال انتقامية قام بها العثمانيون وارتكبوا المجازر في المناطق الأرمنية.
ومع تزايد الدعاية القومية في أوساطهم حاول شبّان أرمن الهجوم على البنك العثماني في استانبول، في آب (أغسطس) 1896، مما أدى إلى ردود فعل عنيفة من العثمانيين، بلغت حدّ ارتكاب مذابح مريعة خلال عامي 1895 – 1896، تركت فظاعتها أصداءً واسعة في أوروبا. وفي نيسان (أبريل) 1909، وقعت مجزرة أخرى ضدهم في أضنة، خلال أحداث الانقلاب المضاد للانقلاب الذي حمل "جمعية الاتحاد والترقي" إلى السلطة.
لعل من المفارقات العجيبة أنّ الأكراد، الذين نالهم ما نالهم من ظلم العثمانيين، هم من كانوا الأداة المنفذة في العديد من المجازر ضدّ الأرمن. فقد ارتكبت معظمها فرق "الجنود الحميدية"، التي تألّفت بصورة خاصة من القبائل الكردية، وقد كان الهدف من تشكيلها الدفاع عن الحدود العثمانية – الروسية، ولقمع الاضطرابات في المناطق المتاخمة لها (وهي ذات غالبية أرمنية)، إضافة إلى استيعاب الأكراد والحد من المتاعب التي يسببونها للسلطة. ومعلوم ما بين الأكراد والأتراك اليوم من ضغائن وأحقاد قومية متبادلة.
يقوم الموقف التركي الرسمي، على الإنكار المستمر ورفض الاعتراف بالمسؤولية عن المجازر. ويحاول الأتراك دعم موقفهم بالقول أن غالبية الضحايا سقطوا في معارك مع الجنود العثمانيين، في سياق الحرب العالمية الأولى، عندما كانت أرمينيا جزءا من الامبراطورية العثمانية، أو في صراعات بين الأرمن والقبائل الكردية، وينفون أن يكون القتل وصل إلى حد الإبادة الجماعية. ويرى الأتراك أنها "مزاعم" و"ادعاءات"، وأنّه لا يوجد وثائق تثبت أن مجازر الأرمن كانت نتيجة سياسة رسمية انتهجتها الحكومة العثمانية.
أقلّ ما يمكن أن يُردّ به على الحجج التركية الواهية عن عدم مسؤولية الحكومة العثمانية، هو أن المسؤولين العثمانيين آنذاك، لم يفعلوا أي شيء لمنع تلك الجرائم على الرغم من علمهم بها. وحتى إن لم يثبت أنّ ما جرى كان بأمر رسمي من الحكومة، فإنّ عدم قيامها بحماية رعاياها ليس تقصيراً فحسب، وإنما يشكّل تواطؤاً مفضوحاً، بالنظر إلى تاريخها السيء في التعامل مع الأرمن، واعتبارها أنّ وجودهم في مناطقها الشرقية يشكّل خطراً يهدد سلامة الإمبراطورية.
لم يكن القرار الأوروبي الأول من نوعه، غير أنه كما في كل مرّة يأتي أحد على تناول الموضوع، ثارت ثائرة الأتراك، فهم يرفضون الاعتذار عمّا ارتكبه أسلافهم، أو حتى الإعتراف به. هكذا، استدعت أنقرة سفيرها لدى الفاتيكان احتجاجاً على تصريحات البابا. كما استبق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قرار البرلمان الأوروبي، بتصريح أكّد فيه أنه "أيا كان القرار الذي سيتخذه البرلمان الأوروبي بشأن مزاعم الإبادة الجماعية للأرمن فإنه سيدخل من أذن ويخرج من الأخرى." ثم لتحذو الخارجية التركية حذوه، بعد صدور القرار، وتصفه في بيان رسمي، بأنه "مثير للسخرية"، متهمةً البرلمان الأوروبي بـ"التعصب اللغوي والديني"!.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة.