منذ ثلاثة أيام وأنا أبحث عن موضوع لمقالي هذا منتظرا شيطان الوحي، دون جدوى. فجأة يقفز تاريخ ما، ليرن في الذاكرة لا كوحي بل كوجع ثقيل مقيم أبداً. إنه تاريخ 19/3/2015، أي يوم اعتقالي قبل أربع سنوات من الآن. أية مصادفة حمقاء أن يتحوّل اعتقال الأمس إلى منقذ اليوم حين يمدني بموضوع للكتابة!.
الآن أدرك متأخراً حكمة السلطات المستبدة حين كانت تقول لأهالي معتقلين قضوا في السجون عتياً من العمر، بأن اعتقال أبنائهم جاء لحمايتهم من أنفسهم. فلو لم يعتقلوني أمس لما كان لدي موضوعاً للكتابة اليوم. إنها حكمة الاستبداد الأسدي المجنون!.
أمام المآلات التراجيدية التي انتهت إليها بلدان الربيع العربي اليوم (باستثناء تونس)، ثمة نغمة جديدة على ألسن البعض: ألست نادماً على الثورة؟ كنا عايشين وياسلام!.
هذا ما قفز إلى ذهني وأنا أنظر الآن إلى ذلك اليوم، لأسأل ذاتي: لو عاد الزمن هل تفعل ما فعلت؟.
أعترف أمامكم اليوم أنني نادم حقاً.
نادم لأني لم أشارك في الثورة أكثر مما شاركت.
نادم لأن الخوف تغلّب علي في بعض اللحظات.
نادم لأني أشعر أني لم أقدم كل طاقتي، وأنخرط حتى الجنون في متاهات الثورة ودهاليزها.
نادم لأن "العقل" في بعض الأحيان كبح جموح التمرد.
نادم لأن طاقتي استنفذت وخرجت من البلد، خائنا شهداء وأصدقاء ومعتقلين، عراة في مواجهة قبح سلطة لا ترحم.
نادم على الكثير مما سبق، ولكني وبشكل مؤكد ولا لبس فيه، لست نادما على الثورة أبدا، رغم كل متاهاتها وتعرجاتها وأوجاعها وآهاتها وأخطائها. فما حدث قد حدث لأنه طريق الصواب رغم فواجعه، فأن تمشي متوجعا بكرامة، وتتيه في منافي العالم رابحا روحك، أفضل ألف مرة من أن تحيا ذلا وهوانا في رقعة استبداد دون أن تصرخ في وجهه: لا.
عدم الندم هنا ليس مجرد "يباس رأس" لمجرد "تسجيل موقف"، بل هو موقف عقلاني نابع من قراءة الثورة في العمق، من حيث أنها انفجار موضوعي ضد آلة استبداد سدّت كل منافذ الفعل الهادف نحو التغيير تدريجيا، فكان لا بد من الثورة.
وإن كان المسار قد انحرف أو ذهب نحو التطرف أو.. أو.. كما يطيب للشامتين أن يقولوا، فليس لأن العطب في الثورة التي يريدوننا أن نسجل فعل الندم عليها، بل لأن الاستبداد أقبح وأوحش مما توقعنا، ولأن فعله في المجتمع قد وصل حدّ سرطنته وعليه فإن الدواء حتما ليس في الندم وفي المسبّب، بل في الذهاب في العلاج إلى أقصاه مهما حمل من مصاعب أو مخاطر. عدا ذلك ليس سوى الموت والموت.
لست نادماً، لأنني أدرك وأؤمن أن أفعال السوريين اليوم قد فتحت سيرورة ثورية لن تطوى قبل أن ترّحل أسس الاستبداد مهما طال الزمن.
القديم لا يموت دفعة واحدة، والجديد لا يولد بسهولة، بل عبر مخاض طويل طويل. وما كان لهذا المخاض أن يبدأ لولا الثورة التي طوت صفحة الذل وكتبت أول سطر في صفحة الحرية التي لم تنته كتابتها بعد.
نعم إني نادم، لأن تاريخ ذلي طويل وثورتي تأخرت حتى عام 2011.
نادم، لأني لم أثر أكثر، ولم أواجه أكثر، ولم أتمرد أكثر، ولم أذهب حدّ التوحد بالحرية أكثر وأكثر.