عن ربيع سوريا الدامي والحرب المستمرة

عن ربيع سوريا الدامي والحرب المستمرة
القصص | 16 مارس 2015

أربع سنوات انقضت، ومازال نظام الكارثة المستمرة ومؤيدوه مثابرون على اجترار حكاية "المؤامرة الكونية" وإنكار أي حراك شعبي غابر، مهما تكن صفته. وعلى رغم أنّ معظم البلاد باتت تحت سلطة أمراء الحروب والجماعات الجهادية، وتسليم النظام ما تبقّى منها لملالي إيران وميليشياتهم، يواصل إعلامه المتهافت التغنّي بـ"السيادة الوطنية". وللسنة الرابعة على التوالي، وأوساط النشطاء السوريين، ممن يصرّون على تسمية ما جرى بـ"الثورة"، تشهد جدلاً متجدّداً بشأن 15 أم 18 آذار (مارس)، أيّهما الموعد الحقيقي الذي يؤرّخ لذكرى "الثورة السورية".

ثمة رأي آخر يميل إلى التحفظ على تسمية "ثورة"، ويرى أن ما بدأ في سوريا أواسط آذار (مارس) 2011، هو "انتفاضة" سرعان ما أدى بها توحّش النظام والتطييف والعسكرة وتدخّلات الخارج، إلى الانزلاق في أتون الفوضى والحرب الأهلية، قبل أن تبلغ مرحلة "الثورة". على هذا النحو تمضي السطور التالية.

ثمة مفارقات انفردت بها المحطة السوريّة من "الربيع العربي". من ذلك، أنّ فئات من المعارضة ومن المتظاهرين انجرّت بالفعل نحو إيجاد معادل واقعي لرواية النظام منذ الأيام الأولى لمايجري، وحديثه عن "الإمارات السلفيّة" و"الفتنة الطائفيّة"، في محاولته التملّص من استحقاق التغيير، ولتبرير "الحلّ الأمني" الذي انتهجه ضدّ المظاهرات السلمية والشارع المنتفض. ففي وقت مبكّر، تبنّت تلك الفئات خطاباً دينياً/ مذهبياً، حرف ربيع سوريا عن مساره، وكان له لاحقاً عميق الأثر في عزوف قطّاعات واسعة من الرأي العام عن تأييد الحراك الشعبي، بل ومعارضته، داخل سوريا وخارجها، بعد أن كانت متعاطفة معه في البداية. ولا يخجل اليوم معارضون "علمانيون" من التهليل لانتصارات أصحاب الرايات السوداء من دعاة الإمارات السلفية تلك ود غدت أمراً واقعاً!

من المعلوم كيف أنّ تطييف الحراك إلى جانب قمع النظام المفرط ، أدّيا إلى تفشّي مستويات غير مسبوقة من العنف على نطاق واسع. هكذا تهيّأ المناخ الملائم لانتشار السلاح وللتدخلات الخارجية، فوصلت البلاد إلى حال من الفوضى، تحمل في جانب أساسي منها ملامح الحرب الأهلية، انكشفت معها سوريا لمجانين "الجهاد الإسلامي"، سنةً وشيعة، فتقاطروا من مشارق الأرض ومغاربها، ليخوضوا حروبهم "المقدسة" على حساب دماء السوريين.

طوال السنوات الماضية رفض النظام والمعارضة القول بوجود حرب أهلية في سوريا، متجاهلين حقيقةً مفادها: "إنّ كل قتال داخلي منظم ومخطط له، ويسعى للسيطرة على الحكم أو فصل جزء من الدولة أو الهيمنة عليه، سواء اتخذ شكلاً دينياً أو مذهبياً أو سياسياً أو عرقياً أو غير ذلك، هو حرب أهلية". وبصيغة أخرى، الحرب الأهلية، "تمثل صراعا سياسياً مسلحاً بين فريقين أو أكثر في أراضي دولة ما، تجري أحياناً ين جيش نظامي وميليشيات مسلحة، أو بين فصائل مسلحة سياسية أو دينية أو مذهبية أو إثنية، تشترك وتشتبك فيما بينها أحيانا، ومع القوات النظامية في أحيان أخرى". والمشهد السوري اليوم يحتوي على كلّ ما سبق.

إلى ذلك يعمل الضخّ الإعلامي من قبل الأطراف المتقاتلة على ابتلاع الذاكرة المشتركة للسوريين، وخلق أخرى يومية مفكّكة وآنية تتغذى على ما يولده الصراع الدامي من أحقاد وكراهية، فيُلغى الحسّ النقدي، ويبدأ تمجيد الذات وشيطنة الآخر. وبات السلوك الطائفي الفاشي للمتحاربين كافّة حقيقة واقعيّة على الأرض لا يمكنهم إنكارها. وشاع التعسف بإطلاق تهم جماعية ضد "طوائف" بأكملها. وذلك بمجمله من سمات الحرب الأهلية، وعلى الجميع إدراك أنّ الوقت قد حان للإقرار بذلك، خاصة مع استحالة الحسم العسكري لأي طرف. هذا سيعني اعترافاً ضمنياً بالآخر من قبل أطراف النزاع، وهو ما يشكّل مقدّمة لتفاوض لربما يفضي إلى تسويات سياسيّة توقف الحرب، وتنقذ من تبقّى من السوريين، وما بقي من بلادهم.

على أنّ ما تقدّم لا يلغي مسؤولية القوى الفاعلة دولياً وإقليمياً في تأجيج الحرب، وتحويل الصراع السوري إلى صراع فيما بينها على سوريا، حتى بات السوريون "وكلاء حروب الغير على أرضهم"، ووقوداً لهذه الحروب، كحال اللبنانيين أيام "الحرب اللبنانية". إذ تميّزت الحالة السوريّة عن بقيّة محطّات "الربيع العربي" باتّساع رقعة تفاعلاتها الإقليميّة والدوليّة، وتعدّد الفاعلين الخارجيين فيها. وتجلّى ذلك في عمق تباين وتأثير الاستجابات الدولية حيال ما يجري، بين دول تقدم مختلف أشكال الدعم للنظام، وأخرى تساند جهود المعارضة لإسقاطه. وخلافاً لحالة ليبيا، التي صدر عن مجلس الأمن الدولي قرار في شأنها، أتاح لحلف شمال الأطلسي التدخل العسكري المباشر فيها مما سهّل الإطاحة بنظام العقيد القذافي، فإنّ النّزاع في سوريا سبّب انقساماً حادّاً في مجلس الأمن الدولي، أدى إلى استخدام حق النقض مرّات عدّة، من قبل روسيا والصين لحماية النظام.

يبقى التذكير بما قاله قبل أكثر من عامين، الرئيس الروسي بوتين، من أنّ "شكل النظام العالمي القادم ستحدّده كيفيّة حل الأزمة السوريّة". ويبدو أنّ السوريين يدفعون اليوم ثمن شكل هذا "النظام العالمي القادم". وكأن فاتورة نصف قرن من استبداد نظام كارثي لا تكفيهم!


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق