اهتمامٌ إعلاميّ بالغ حظيت به "عملية" القوات المسلحة التركية داخل الأراضي السورية قبل أيام، لنقل رفات سليمان شاه، جدّ عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية، وسحب الجنود الأتراك المكلفين بحراسة ضريحه.
تباينت الآراء حول العملية. اعتبرها بعضهم مجرد استعراضٍ للقوة لتذكير الأطراف المختلفة الضالعة بالملف السوري بدور أنقرة الفاعل وعدم إمكانية تجاهله. وهناك من رأى فيها محاكاة لسيناريو محتمل، عن تدخّل عسكري تركي مباشر واسع النطاق شمالي سوريا. ربّما استند هذا الرأي إلى حجم القوات التي شاركت في العملية، إذ بلغت نحو أربعين دبابة وأكثر من خمسين عربة مدرعة وعشرات العربات المتنوعة، رافقت قرابة ستمئة جندي، وفق ما ذكرت مصادر تركية رسمية.
تحليلات أخرى ذهبت عكس ذلك، إذ رأت في العملية إشارة واضحة إلى عدم رغبة تركيا في التورط العسكري المباشر في سوريا، خصوصاً وأنها تزامنت مع شروعها في تدريب أعداد كبيرة من مقاتلي المعارضة السورية. فقد سبق أن نُشرت أنباء عن تعرض قافلة عسكرية تركية لهجوم أثناء توجهها إلى الضريح لتبديل جنود الحراسة، ووقوع عدد من الجنود أسرى في يد تنظيم "الدولة الإسلامية" قبل أن يُطلق سراحهم إثر مفاوضات بين الجانبين. يُضاف إلى ذلك مواظبة التنظيم على تفجير الأضرحة والمقامات الدينية في مناطق سيطرته. وقامت تركيا بالعملية كي لا تجد نفسها مضطرة للتدخل فيما لو تعرّض الموقع أو الجنود الأتراك المكلّفون بحراسته إلى هجمات جديدة من قبل مقاتلي التنظيم مستقبلاً.
غير أن مقاربة مختلفة من زاوية أخرى تبدو ممكنة أيضاً، فلا يُنظر إلى الحدث من خلال ربطه بمجريات الحرب في سوريا فقط، وإنما بوصفه تفصيلاً يُضاف إلى معطيات عدة تأتي ضمن استراتيجية أشمل، فيؤكّدها ويذكّر بها في الوقت عينه.
خلال مشاركته في اجتماع رسمي نظمته رئاسة الشؤون الدينية التركية في أنقرة يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عزمه العمل على إدراج "اللغة العثمانية" في المناهج الدراسية الرسمية في تركيا. حينها ردّ أردوغان على المعارضين لهذا القرار ممن يعتبرون أن لا فائدة تُرجى من تعلّم اللغة العثمانية سوى "قراءة النصوص المكتوبة على شواهد القبور"، بالقول "شواهد القبور تحمل تاريخاً وحضارة" معتبراً أنّ الجهل الأكبر "عدم معرفة جيل لهوية من يرقد في مقابره". وأكّد أردوغان أن هذا القرار سينّفذ "سواء شاء المعارضون أم أبوا".
لم يكد يمضي شهر على تصريحات أردوغان تلك حتى ظهر محاطاً بثلّة من الحرّاس يرتدون أزياء عثمانية تعود إلى عهود مختلفة من تاريخ إمبراطورية آل عثمان، وذلك عند استقباله رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في القصر الرئاسي الجديد بأنقرة. قبلها بأيام شهد القصر نفسه سابقة هي الأولى في تاريخ تركيا الحديث، حين ترأس أردوغان اجتماعاً لمجلس الدفاع في قاعة خلت من صورة مصطفى كمال أتاتورك، الرجل الذي أعلن الجمهورية التركية على أسس علمانية، وأنهى حكم سلاطين بني عثمان.
في كل ذلك ينسجم سلوك أردوغان مع تصريحات حماسية يطلقها من فترة إلى أخرى، ويعبّر فيها عن فخره بأنه "حفيد السلاطين العثمانيين". والمسألة ليست مطلقاً محض شكليات فارغة وإنما تندرج ضمن استراتيجية بات من الشائع تسميتها "العثمانية الجديدة". عبّر عن هذه الاستراتيجية صراحةً أحمد داود أوغلو أحد أبرز أركان الفريق الأردوغاني، والذي يُعدّ مهندسها وعرّابها الأول. عمل أوغلو مستشاراً لأردوغان ثم انتقل ليرأس الدبلوماسية التركية قبل أن يخلف أردوغان في رئاسة الحكومة وزعامة الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) إثر تولّي الأخير رئاسة الجمهورية.
في مؤلفاته العديدة، وخاصّة كتابه "العمق الاستراتيجى موقع تركيا ودورها فى الساحة الدولية"، استفاض أحمد داود أوغلو، وهو المتخصص بالعلاقات الدولية، في شرح توجّهاته وطموحاته لإحياء الأمجاد العثمانية. وقدّ أكّد مراراً على عودة تركيا إلى دائرة التأثير الأولى في مناطق نفوذ السلطنة العثمانية، وخصوصا في بلاد الشرق الأوسط. وإنّ الانخراط التركي المتزايد في قضايا المنطقة منذ تولّي "حزب العدالة والتنمية" السلطة في تركيا يؤكّد السعي للعمل كقوة إقليمية فاعلة تحقّق هذا الحلم.
تناول أوغلو التاريخ كأحد العوامل الأساسية المحددة لسياسة تركيا الخارجية، إذ يرى أن حاجة البلاد للاندماج في النظام الأوروبي بعيد تأسيس الجمهورية دفعت بنخبتها السياسية إلى القطيعة مع التاريخ العثماني، وأن ذلك أدى إلى ابتعاد تركيا عن محيطها الجيوثقافي (الشرق الأوسط، البلقان، القوقاز). غير أنّ انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الخطر الشيوعي استدعى تغييرات في السياسة التركية.
هكذا بدأ التفكير في اكتساب "العمق الاستراتيجي للدولة العثمانية"، متمثلا في آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان والمنطقة العربية، وهذا ما عملت وتعمل عليه حكومة العدالة والتنمية بالفعل بشتى الوسائل. ولعل التسمية اللائقة بهذه السياسة: "البعث العثماني". بعثٌ لا يقتصر على رفاة القبور أو لغة شواهدها، ولا هو استعراض لأزياء فولكلورية وحسب، بل ينشد إحياء الأطماع التوسعية للإمبراطورية العثمانية البائدة، ولو كان ذلك على حساب دمار بلدان المنطقة ودماء شعوبها.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن بالضرورة عن توجه روزنة.