هل من سبيل للمراجعة والتجديد في الإسلام؟

هل من سبيل للمراجعة والتجديد في الإسلام؟
القصص | 10 يناير 2015

تكاثرت التحليلات حول أسباب الهجمات الإرهابية الأخيرة التي نفّذها "إسلاميون" في فرنسا. ووضِعت الظاهرة في أُطُر مختلفة: قضايا الشرق الأوسط العالقة وازدهار الإرهاب في كنفها، كالحرب المستمرة في سوريا والقضية الفلسطينية. وربطها آخرون بمشاكل اقتصادية - اجتماعية تعانيها "الجالية المسلمة" في فرنسا، وفشل الحكومات المتعاقبة في معالجتها. ولم يخلُ المشهد من مدمني "نظرية المؤامرة"، واتهامهم إسرائيل أو اليمين الفرنسي المتطرّف بافتعال الأحداث بغية "تشويه الإسلام".

هناك احتمال لصحّة تلك الآراء. لكن اللافت إجماع أصحابها على رفض تحميل عقائد الإسلام وزر ما يجري، معتبرين أن ذلك مجرّد "تفسير سطحي". ينسى هؤلاء أنّه مهما تكن حقيقة من دبّر الهجمات فإنّ "المصادفة" المتكررة بأن يكون المنفذون مسلمين ووجود متّهم جاهز دوماً هو الإسلام السياسي- الجهادي، يجعل من الملحّ الكفّ عن تجاهل حقيقة اتّكاء الإرهاب على تعاليم إسلامية يعلوها الصدأ، نتيجة ممانعة القيّمين على الإسلام ورفضهم لأيّ نقد أو مراجعة تطال النصوص "المقدسة"، أو حتى ما تراكم عليها من شروحات وتفاسير تحضّ على الكراهية واحتقار "الآخر" وتكفيره، وما ينتجه ذلك من تطرّف وإرهاب.

ولكن، أيّ إصلاح سيخرج الإسلام من مأزقه الراهن؟

يسود اعتقاد لدى المسلمين، عامّتهم وعلمائهم، أنّه خلافاً للمسيحية لا ينشغل الإسلام بخلاص الإنسان فحسب وإنما بكافّة تفاصيل حياة الفرد والجماعة، ويضع أسساً لتنظيمها في مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. 

هذا الشمول لتفاصيل حياة المسلم لا يقتصر على "المعاملات"، والتي يمكن الاختلاف فيها وحولها في الإطار الإسلامي، وإنّما يقع في صلب العقيدة الدينية التي لا مجال لإنكارها، كما في الآية "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالَمِين" (الأنعام 162). فالقرآن لا يميّز بين الديني المتماهي بالروحي والمطلق، وبين الزمني والدنيوي النسبي أي العلماني، فلا تنفصل أعمال الإنسان في شقّيها عن غائية "العبودية لله". كذلك "تمتّع" المسلم بالحياة الدنيا "ترتيب إلهي" وفق النصّ القرآني: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ الله التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُون" (الأعراف 32). 

هذا الارتباط الكبير بين الديني والدنيوي في الإسلام دفع مفكرين غربيين مثل فولتير، مرسيا إلياد، ونيتشه إلى اعتبار الإسلام أنموذجاً مكثفاً للدين الطبيعي المناقض للزهدية المسيحية. وقد اقترن الإسلام في وعي المسيحية بالدين المادي الذي يدفع أتباعه إلى الإقبال على متع الحياة، بما يتناقض مع الدين "القويم" القائم على الطهورية الزهدية وفق الاعتقاد المسيحي. كما أن الكنيسة البابوية، وفي معرض صراعها مع آباء البروتستانت المنادين وقتها بالتخلي عن الزهد المصطنع الذي فرضته البابوية بعيداً عن تعاليم المسيح، من مثل منع زواج القساوسة ورجال الدين، أطلقت على أصحاب هذه الدعوة، أي البروتستانت، لقب "المحمديين".

على أنّ وقائع التاريخ الحديث وتجارب شعوبٍ بلغت شأواً في الحضارة الإنسانية، تؤكّد أنّ الإمكانيّة الفعليّة للتجديد/ الإصلاح الديني ظهرت في ظلّ العَلمانية، التي حفّزت الأديان على مراجعة مقولاتها وتكييفها بما يتناسب ومقتضيات العصر، فتكفّ عن ليّ عنق الحياة المعاصرة لتتوافق مع النصّ الديني. هكذا تدفع العَلمانية نحو "إعادة تأسيس الدين ضمن نظام المحايثة الدنيوية بدل الاستناد إلى فكرة التعالي أو التجاوز"، وفق تعبير المنظّر العلماني الفرنسي مارسيل غوشيه، فيقوم النظام الاجتماعي العام استناداً إلى القوانين الوضعية العصرية عوضاً عن المرجعيات الدينية التي فات زمنها.

والعَلمانية لا تعني بأي حال التخلّي عن الدين أو محاربته، على ما يروّجه خصومها. يتجلّى ذلك في حرية العقيدة دون إكراه أو تدخّل من أحد، وضمان حرّية الأديان على أن تبقى في إطارها "الديني - الروحي". وهذا مبدأ أساسي في العَلمانية، يجد تطبيقه العملي في حياديّة الدولة تجاه الأديان واحترامها للتعددية الدينية والدنيوية. على ذلك تنظر الكنيسة إلى العَلمانية نظرة إيجابيّة، حتى أنّ البابا بيّوس الثّاني عشر أعلن "العَلمانية السّليمة" كمبدأ أساسيّ من مبادئ الكاثوليكية، إذ "تعطي لقيصر ما هو لقيصر وما لله لله"، وتحترم كافّة المذاهب، وتضمن حريّة المعتقد وممارسة الطّقوس، وهو ما ساهم في اندماج الكنيسة في المجتمع المعاصر وتكيّفها مع مقتضياته دون اصطدام بالأفراد أو الجماعات.

إن استمرار القيّمين على الإسلام ومن يتبعهم برفض العَلمانية، لكونها تفضي إلى "فصل الدين عن الدولة"، وإصرارهم على مقولة الإسلام "دين ودولة"، لا انفصال فيه بين أمور الدين والدنيا، يجعل من العسير الخوض في مراجعات جدّية تقود إلى قراءة عصرية مختلفة للإسلام.

غير أنّ ما آلت إليه أحوال الإسلام والمسلمين في ظل التمسّك بهذا الخطاب تدعو لقول بأنّ الوقت قد حان ليخرج من بين المسلمين تنويريّون شجعان يحملون على عاتقهم تحدّي علمنة الدين الإسلامي، وتحويل التعاليم الدينية إلى نوع من الأخلاق الاجتماعية. وإذا كانت الأديان، وفي مقدمتها الإسلام، تنسب لنفسها دوراً أخلاقياً أساسيّاً، فإنّ تحوّلاً من هذا النوع لا يُفقد الدين مكانته الروحية أو وظيفته الأخلاقية، لا يُفترض أن يكون مناقضاً لرسالتها. فهل الإسلام بالفعل قابل للإصلاح أو التجديد؟

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي روزنة.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق