يكاد يكون مشهد تنافس الأخوين هيثم ومحمد، في خلط مكونات الطين، بعيداً كل البعد عن تنافس أي طفلين آخرين في عمرهما، فهما ليسا من هواة المدرسة أو روادها، ولا من محبي ألعاب "البلاي ستيشن" كباقي الأطفال، فتنافسهما الأشرس، يتجسد بمن يحمل دلو الاسمنت الأكثر وزناً.
نزح الشقيقان مع أهلهما من حمص إلى غربها في وادي النصارى "النضارة"، بعيداً عن المعارك، فتركا المدرسة والتحقا بورش البناء.
يقول هيثم ذو الثماني سنوات: "ياريت أبي يعطيني اليوم 15 ليرة لأني تعبت كتير وأيديي تجروحوا"، يصرخ محمد الأكبر منه بثلاث سنوات متعجباً:" 15 ليرة!! أنا لمّا كنت بعمرك، أكتر مرة أخدت عشر ورقات".
الأب: "بلا هالعلم كلو"
يعمل أيمن أبو الطفلين في مجال البناء، ويكاد لا ينتهي من ورشة حتى ينتقل لأخرى، فهو الأقل أجراً بين كل بنائي المنطقة.
اتخذ الرجل لعائلته مسكناً في مبنى غير مكتمل، جوانب البيت مفتوحة للهواء والمطر. وكونه بناءً، عمل على إغلاقها بقطع الآجرّ، لسد الهواء من الشرق والغرب، في فصل الشتاء.
وعند سؤال روزنة، للأب عن سبب عدم ذهاب أولاده إلى المدرسة، أجاب: "لشو يروحوا، يجوا يساعدوا أبون أحسن، يومية العامل 1000 ليرة"، ويجزم بعدم أهلية أولاده للعلم بقوله: "هيك هيك مارح يطلعوا متعلمين".
رغم الاختلاف الكبير بين حياة هذين الطفلين، وحياة أي طفل آخر بالمنطقة التي يعيشون فيها، إلا أن براءتهما تتحجر يوماً بعد يوم كالجدران التي يعملان على بنائها.
يقضيان نهارهما في ورشة البناء الفارغة، ويدق جرس الفرصة بجملة من الوالد: "قوموا عملولنا شاي"، لتبدأ معها المغامرة اليومية السعيدة، فيجمع محمد الحطب لتكسيره، فيما يحضّر هيثم الإبريق الـ"مشحور"، ويجهز مكاناً لإشعال النار.
يقول هيثم: "أنا أحب المدرسة لكني كبرت عليها، عهد أخي لا يزال صغيراً عمره 6 سنوات فقط، يذهب إلى المدرسة في الشتاء، ويأتي معنا في الصيف وأيام العطل".
محترف أركيلة ويعشق الدرجات النارية
علاء طفل آخر، قست عليه الحرب في سوريا، فهجّرته وعائلته من حي الميدان في حلب، إلى بلدة المزينة بوادي النصارى، ليعمل وأخوه أيضاً كـ"صبي أركيلة"، في مطاعم تلك البلدة.
ما أن تجلس على الكرسي في المطعم، حتى يأتي إليك علاء ذو العشر سنوات، ويسألك "بدك أركيلة حبيب؟ "، تمرُ لحظات ويأتي علاء ليضع "الأركيلة" جانبك، ويشعلها على طريقة الخبراء، ثم يقول مع ابتسامة حاذقة:" بدك شي تاني معلم" في إشارة منه "للبخشيش" الذي يدفعه الزبون عادةً، لقاء خدمات سريعة لـنفس أركيلة ظريف.
لا يرتاد علاء المدرسة، ويتحدث بصوتٍ متقطع، وبلكنة حلبية: "ما بحبا، هون بطلع مصاري وبشرب أركيلة، أما بالمدرسة مافي كل هدول".
لا يقتصر الخطر المحدق بالطفل علاء، على حمى المطاعم المغلقة، التي يتنقل بينها لإشعال الأركيل وتدخين السجائر من الأصدقاء، فذو العشر سنوات يهوى قيادة الدراجة النارية، ويحبها أكثر من أي شيء آخر، حسب تعبيره.
ويعلق منير جار أبو علاء: "المردود المادي لأبو علاء ليس سيئاً، بل على العكس أنه جيد، فما الذي يدفع به لإجبار أولاده على العمل، في أماكن لا تناسب الكبار أصلاً حتى تناسب الأطفال!؟".
مع حلول الشتاء!
حطت الحرب الدائرة بسوريا، أوزارها في أغلب المناطق والمدن، فدمرتها وشردت أهلها، وكان الأطفال الأكثر تأثراً وتضرراً، فالملايين منهم يواجهون شتاءً قاسياً هذا العام، حسب منظمة اليونسف التي تعنى بالطفولة.
وفي اليوم العالمي لحقوق الطفل، تحدثت المنظمات الإنسانية والعالم بأسره عن الطفل السوري وتمنوا له الدفء، وتبرعوا لأطفال المخيمات، وأكدوا على حقهم في التعليم والعيش في أمان، وهنا تكمن المفارقة في نظر منير، الذي قال : "حالة أطفال أمثال محمد وهيثم وعلاء، لم تكن ستضاهي حالة أطفال المخيمات سوءً، لولا تعنت وجهل أهل قسوا على أولادهم، أكثر من الحرب السورية نفسها".